في ليل ٍ ثلجيّ ، كان مظلوم يؤدي واجبه " الوطني " حارسا في باب " مفرزةالتصليح الآلية " التابعة للواء السابع ـ حرس الحدود .. المفرزة عبارة عنساحة مكشوفة مليئة بالعجلات العاطلة وآليات أخرى ، بنى فيها منسوبوهاالجنود غرفا من الصفيح ، وأخرى من طابوق إسمنتي صنعوه بأنفسهم ، وحفروافيها عددا من الملاجئ يهرعون اليها كلما نعقت صفارات الإنذار معلنة عن زخةجديدة من مطر القنابل الإيرانية ... تقع المفرزة خلف " ملهى النصر" تماما، في شارع الوطني في مدينة البصرة لايفصل بينهما غير جدار واطئ من الطابوق.. أمام المفرزة يقع فندق ـ ما عاد مظلوم يتذكر اسمه ... فندق لا ينام فيهسوى راقصات ونادلات الملهى ... إنه حانة أكثر من كونه فندقا ، ثمة فيهقاعة واسعة لتقديم المشروبات الكحولية ، مفتوحة الأبواب طيلة النهار وحتىآخر الليل .. " مظلوم متأكد من ذلك .. فقد عاد لمنادمة الكأس أملا ً فينسيان كونه أضحى حيوانا في الإصطبل العسكري ، وكثيرا ما كان يتسلل إلى تلكالقاعة خلال حراسته الليلية ليملأ " الزمزمية " بسائل أبيض ذي رائحة كريهةيطلق عليه رفيقه جندي احتياط معاون طبيب " ناظم البدران " مسمّى " حليبالسِّـباع " ويسمّيه العريف علي الأسمر " دواء الجمجمة " بينما مظلوم يطلقعليه مسمّى " العسل المرّ " ... يقسم مظلوم أنه رأى بعينيه ضابطا برتبةنقيب يرتدي ملابس القوات الخاصة ينزل من الطابق العلوي ملطخ الفم بأحمرالشفاه ... بل ويقسم أنه قال للضابط ـ ودون ان يؤدي له التحية : " رجاءسيدي إغلق سحّاب بنطلونك حتى الفرس المجوس ما ياخذون نظرة سيئة على ملهىالنصر " فكان جواب الضابط ـ حسب زعم مظلوم ـ : " يا ابن الكحبة ليش هيالقادسـية أشـرف من ملهى النصر ؟ "
في منتصف ذلك الليل الثلجي ،وكان الظلام شديدا ، سمع مظلوم صوتا يشبه صوت مزاريب السطوح وقت انهمارالمطر .. وحين حدّق جيدا ، رأى عسكريا يتبوّل واقفا مثل كلب على مقربة منالملجأ المحاذي لورشة التصليح ... ولأن مظلوم قرويّ ، فقد صاح به : رجاءإرفع رجلك حين تتبوّل ...
كان مظلوم يظن الذي يتبول ، كلباآدميا ً.. وبحسب ثقافته القروية ، فالكلاب لا تتبول إلا واقفة رافعة أحدالساقين الخلفيين ... ثم أن مظلوم يعتقد أن للقبور حرمتها ، فلا يجوزالتبوّل عليها أو قربها ...هذا كل ما في الأمر ... مظلوم كان يعتقد أنجنديا من جنود وحدته هو الي أفرغ مياه مثانته قرب قبره الذي يُطلق عليهإسم ملجأ ... لم يكن مظلوم يتوقع أن ذلك المتبول ، هو ضابط طيار يحمل نوطيشجاعة ، والذي ربما كان في زيارة أحد اصدقائه الضباط في مفرزة التصليح ،أو في زيارة للواء ، فغالبا ما كان الزوار يتركون سياراتهم في رحبةالمفرزة ومن ثم تقلهم الى الجبهات سيارات عسكرية مموهة بالطين أو بشباكتشبه شباك صيادي الأسماك ..
تقدم الضابط من مظلوم وهو يطفح غضبا... ومن سوء حظ مظلوم أنه لم يغلق راديو الترانزستور تلك اللحظة ، فقد كانيستمع الى تقرير إخباري من إذاعة لندن حول معارك " الفاو " وما لحق بالجيشالعراقي من خسائر جسيمة كان يمكن تلافيها لولا جهل وغباء ونرجسية القائدالعام للقوات المسطحة .. عفوا ، القوات المسلحة ..
" عميل ..خائن .. جبان .. لا بد من عقابك .. يا سافل .." هكذا صرخ الضابط بوجهمظلوم حين عرف انه كان يستمع الى إذاعة لندن .. ويبدو أن الضابط قد نجح فياستفزاز مظلوم ، الذي أجابه بشيء من السخرية : أطبق فتحة سروالك أولا ،واستعمل حفاظات بامبرز إذا كنت سريع التبول ولا تملك السيطرة على نفسك ..إستشاط الضابط غضبا فصفع مظلوم على وجهه فإذا بمظلوم يفقد أعصابه فيبصقعلى وجه الضابط ويرفسه في بطنه فسقط إلى الأرض ليس بسبب قوة رفسة مظلومإنما من أثر السكر ... تعالى صراخ الضابط الذي اتضح أنه برتبة رائد ..وهرع رديف مظلوم في الحراسة الجندي " إسماعيل الفيترجي " إلى آمر المفرزةليوقظه .. واستيقظ جنود المفرزة كلهم .. جاء آمر المفرزة الملازم أول "مسلم عبد درو " والذي وقف لمظلوم موقفا ً مشرّفا سيبقى محفورا في لوحذاكرته أبدا .. قال للضابط الطيار بلهجة حازمة : لا أسمح لك سيدي الرائدبالإعتداء على جندي من جنودي اثناء تأديته واجبه .. وسنفتح تحقيقابالموضوع .. يؤسفني أن أقول إنك اعتديت وأنت في حالة سكر شديد .
ومعأنني اعترفت لآمر المفرزة ببصاقي على غريمي إلآ أنني نكرت رفسي له ،مدّعيا أنه سقط إلى الأرض بفعل سكره الشديد ، فنصحني بأن أنكر بصاقي عليهورفسي له .. لكنني كنت صادقا في قسمي بأنني لم أكن أعرف أنه ضابط ،فالظلام كان حالكا وكانت رتبته المطرّزة بخيوط غامقة على بدلته الزرقاءغير واضحة ..
كان موقفا شهما وشجاعا من آمري الشاب النبيل ابنأحد فلاحي ريف الديوانية .. يومها اكتشفت أن أكثر الجنود هم طيبون ورائعونعلى العكس من الضباط فأكثرهم لا يتوانون عن استغلال جنودهم ـ وبخاصة أبناءالأثرياء ـ والقلة منهم طيبون .
صحيح ان مظلوم يجنح الى الخبثأحيانا ، لكن الصحيح ايضا ، هو على قدر كبير من الطيبة والألفة .. فهووإنْ كان خبيث القصد عندما طلب من المتبول رفع أحد ساقيه، إلا انه لم يكنيقصد إهانة المرسوم الجمهوري الذي منح الضابط رتبته العسكرية ... ولم يكنيقصد إهانة بطاقة عضوية الحزب التي اتضح فيما بعد أنه يحملها ـ على رغمقناعة مظلوم بأن بطاقة العضوية تلك لا تعدو كونها سُبّة وشتيمة لحامليها ،وبخاصة بعد نجاح " المهيب الركن الذي لم يدرس العلوم العسكرية ولو في ثكنةشرطة " بإفراغ الحزب من معانيه الوطنية والقومية والإنسانية ، ليغدو مجردتابع من توابع سلطته وأداة من أدوات نرجسيته المنفلتة برعونة وحمق ..
أزعم أنني أعرف " مظلوما " بشكل جيد ... انه عنيد كالبغـل ..لكنه ايضاوديع كحمامة .. له قدرة على تحمل الضرب والصفع والركل والسياط والكيبلات ،وحتى العضّ والرفس والنطح دون أن يصرخ أو يتأوه ـ قدرة قد لا يملكها حمارابن مدينته " حمادة العربنجي " لكنه في نفس الوقت ، يمكن أن تدمع عيناهلرؤية طفل حافي القدمين .. أزعم انني أعرفه تماما ... وبموجب هذه العرفة ،أقول جازما ، إنه كان يستمع ـ كلما سنحت له الفرصة ـ الى إذاعة لندن "وإذاعات أجنبية أخرى " مع علمه أن هذا الاستماع ممنوع ... الجنود كلهمكانوا يستمعون خلسة للإذاعات الأجنبية .. بل وحتى آمر المفرزة نفسه كانيستمع للإذاعات الأجنبية لمعرفة حقيقة الأحداث .. مظلوم شديد الكراهةللأناشيد التي تتحدث عن بطولات وهمية وانتصارات لا وجود لها إلآ داخلاستوديوهات اذاعة صوت الجماهير واذاعة بغداد وفي أروقة الماخور الإعلاميالذي يشرف على إدارته "غوبلز " جديد في دولة رايخشتاغ القصر الجمهوريببغداد لصاحبها الفوهرر " مطيحان " ..
لقد اعتقد مظلوم أن السيدالضابط الطيار أراد من وراء اتهامه بتهمة العمالة ، الحصول على اعتذاريليق برتبته العسكرية ودرجته الحزبية .. ولقد اعتذر مظلوم حقا .. اعتذرصادقا ، وأقسم للضابط بالله وكتابه ، أنه كان يعتقد أن المتبول هو نائبالعريف " ناجي هجرس " أو الجندي المطوع " اسماعيل الفيترجي " الذي سبقوتبوّل واقفا قرب ملجأ الطباخين .. أما أن يصبح الاستماع الى إذاعة لندنجريمة تصل حدّ الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي ، فأمر لم يكن مظلوميتوقعه ، وكان يمكن أن يودي بحياته لولا شهامة الملازم أول عبد مسلم دروالذي أمر جنود المفرزة بالشهادة على أن الضابط كان ثملا ً وأنه هو الذياعتدى على مظلوم .. لم يكتفِ بهذا ، فاتصل بالنقيب " كاظم " ضابط التوجيهالسياسي للواء والملازم أول " سلمان كريم " آمر سرية اللواء باعتداءالرائد على مظلوم خلال واجب الحراسة الليلية .. من جانبه ذهب مظلوم صباحاليوم التالي إلى مقر قيادة القوات البحرية ليلتقي ابن مدينته وصديقهالعقيد " محسن علي عكلة " العضو المهم في المكتب العسكري لحزب مطيحانفأحسن استقباله ووعده بتدارك الأمر (مع عتاب يأخذ شكل التوبيخ والنصيحةلمظلوم الذي نقل له تفاصيل الحادث بصدق ) ..
حين عاد مظلوم منمقر قيادة القوات البحرية ، قال له آمر المفرزة : لقد أدرجت اسمك ضمن "قائمة الإجازات الدورية التي ستصدر بعد ساعات " رغم أن استحقاقك لها سيكونبعد اسبوعين ، فعلينا إبعادك من المعسكر تحسُّـبا لتوقيفك ومحاكمتك في حالفشلت مساعينا لإقناع الرائد طه بالتنازل وتسوية المشكلة ، فقد اتصل بيالعقيد محسن علي عكلة وسيزورني عصرا لنبحث في إيجاد مخرج يقيك تبعات تصرفك....
غادر مظلوم وحدته تجاه كراج نقل المسافرين في ساحة سعد ـ وليته أمضى إجازته داخل المفرزة !
دلف إلى سوق " حنّا الشيخ " القريب من وحدته في العشّار ليشتري دميةلطفلته الوحيدة ... تحدث من هاتف عمومي مع زوجته وطفلته ليخبرهما أنه فيطريقه إليهما .. فرحتْ شيماؤه حين أخبرها عن الدمية فسألته عن شكلها ..قال لها : دمية لها ضفيرتان طويلتان كضفيرتيك وعينان عسليتان واسعتانكعينيك وتبكي حين تخرجين " مصّاصة الرضاعة " من فمها ..
حين غادرالمحل نسي مظلوم أن يلبس حذاء الرأس " البيرية " حتى إذا وصل جسر العشارسمع صوتا يُنادي : " أبو خليل .. أبو خليل " .. لكنه تجاهل الصوت ولميلتفت إلى مصدره .. خطوات ويُفاجأ بأحد جنود الإنضباط يسحبه من قميصهقائلا بصلف : لماذا تتجاهل النداء ؟ أجابه مظلوم : لكنك لم تنادني يارجل.. قال الجندي : أنت تكذب .. ناديتك مرتين " أبو خليل .. أبو خليل " ...أجابه مظلوم : نعم سمعت هذا وظننتك تنادي شخصا آخر ، فأنا أبو شيماء وليسأبو خليل .. ( الجندي لم يعد ممسكا بالقميص ... بات ممسكا يد مظلوم بقوةخشية أن يهرب !) ..
جاء جنديان آخران من جنود الانضباط فأرغمامظلوم على الصعود إلى سيارة الانضباط العسكري .. ثمة في السيارة نحو عشرةجنود .. حاول إقناع آمر مفرزة الانضباط بالسماح له بإخلاء سبيله ولو عطفاعلى طفلته التي تنتظر دميتها .. لم يكن آمر مفرزة الانضباط أصمّ بدليل أنهأجاب مظلوم : أكرمنا بسكوتك ..
توقفت السيارة في صحراء الشعيبة حيثموقع سجن انضباط قوات محمد القاسم .. أُدخِل مظلوم إلى حجرة من الصفيح ...يقسم مظلوم أن مساحتها لاتتعدى الخمسين مترا متربعا .. كانت حجرة تعليببشري .. مُعتقل فيها أكثر من مئة جندي .. لاثمة بساط ـ لأن الغرفة لاتتسعللجلوس أساسا فما ضرورة البساط ؟ .. ولاثمة نافذة تعمل على تجديد الهواء.. ولا ثمة مدفأة تقلل من ارتجاف الخراف المعلّبة داخلها .. ولا ثمة ولوفتحة في جدار الصفيح تُـتيح لأحد فرصة " إخراج إحليله " ليتبول حين تحتقنمثانته ..
مظلوم طلب بدء نزوله من السيارة الذهاب إلى مكانالتبول فدفعوا به إلى داخل غرفة التعليب هذه .. وحين صاح من خلف الباباستنجادا ، أجابه صوت ساخر : مسموح لك التبوّل على نفسك أو فاصبر حتى يحينموعد التبوّل !
للتبوّل إذنْ مواعيد في قادسية مطيحان !
تنمّلت قدماه .. واستطاع بعد جهد الحصول على موطئ قدم قرب جدار الصفيحأراح ظهره إليه .. وأكثر ما أرهق مظلوم انتفاخ مثانته ومحاولته إبعاد دميةابنته عن الأجساد الملتصقة به .. لم يصدّق مسمعه حين تناهى إليه صوت شخيرمتقطع .. !! ومَنْ يدري ؟ فربما يكون مظلوم أيضا قد غفا واقفا ، لذا سألالجندي الملتصق به : هل شخرت أنا ؟ أجابه : لا .. لكن الدمية صدر منها صوتبكاء !
قبيل الغروب فُتحت باب غرفة التعليب .. قال الحرّاس :سيخرج كل عشرة جنود إلى دورات المياه لمدة عشر دقائق للتبوّل ولشرب الماء... ومن يتأخر يُعاقب ..
أفرغ مظلوم قِربة مثانته واقفا مثل كلب .. وشرب ماء من ذات الخزان الذي يُستخدم ماؤه للتنظيف ..
عندالغروب ، أخرجونا جميعا إلى فضاء محاط بسياج من الصفيح : إنه موعد شِراءطعام العشاء : صمّونة بائسة وبيضة مسلوقة وشريحة طماطم مع كوب شاي أكثربؤسا بنصف دينار !!! لقد وضح جانب من الصورة .. آمرية الإنضباط العسكريإذن وجدت في الجنود منجما ً لجني النقود !!
مظلوم ـ وغيره كثيرونـ تظاهر برغبته تناول" سندويشة ثانية وكوب شاي ثان ٍ كي يُطيل فترة بقائهخارج حجرة التعليب الآدمي .. وكذا كان الحال مع فطور الصباح ومن ثم طعامالغداء حين خدمته المصادفة برؤية ضابط برتبة نقيب ، يبدو أنه آمر المعسكرفشرح له ماحصل وأراه نموذج إجازته فنجح في إقناعه بإطلاق سراحه .. وصلمظلوم بيته في اليوم الثالث من إجازته وهو أكثر حقدا على مطيحان وقادسيتهوجنرالاته وحزبه ، وبدأ يخطط لهروبه في الوقت المناسب ، معاهدا الله علىأنه لن يرمي طلقة واحدة على الجيش الإيراني حتى لو وصل مشارف القصرالجمهوري حيث يقيم القائد العام للقوات المسطحة على مقربة من طائرتهالمهيّأة للإقلاع عند الضرورة !
قررمظلوم أن يُفاتح والده بشأن عزمه على الهروب من العراق .. ( كان والدمظلوم يردد دائما : أمنيتي الوحيدة هي أن أرى نهاية مطيحان وهو يُسحل فيالشوارع تدوسه أقدام ضحاياه ) ..
أجابه والده : تريّثْ وليدي ..هذولة ظالمين وعديمين الشرف والضمير .. إذا هربت راح ينتقمون من إخوانكوأخواتك .. تتذكر لمّا أحضروني آني وأمك وأخواتك وأخوانك السنة الماضيةوهددونا بالتسفير إلى إيران حين كنت أنت موقوف وضربني الشرطي راجدي أمامك؟سلّمْ أمرك لله وليدي واصبر .. كل شدّة ولها فرج .. بعدين ياوليدي عنديسؤال : ليش ماتترك عنادك وتسجّل بعثي ؟ والله العظيم مدير الأمن بنفسه بعثلي خبر ويقول إذا تسجل بعثي يرجعونك للتدريس ..
أجابه مظلوم :نعم أتذكر كيف أحضروكم في مديرية أمن البلدة أنت وأمي وأخواتي وأخوتيلتهديدي بالتسفير .. وأتذكر أنك قلت له : سيدي آني شهادة جنسيتي عثمانيةأصلية وعشيرة بني حِسَـنْ " معروفة بعروبيتها .. لكن يا حاج هل تتذكر أنتجوابي حين قلت لي : " أختك غيداء خطبها موظف حكومي كبير وعضو فرقة بحزبالبعث " فما رأيك ؟ أتتذكر جوابي ياحاج ؟ أتتذكر أنني قلت لك : إذاغيداءتزوجت عضو فرقة بعثي سأقتلها غسلا للعار ؟
الحاج عباس لم يقلسوى " حسبي الله ونعم الوكيل " ... ثم قال لمظلوم : اليوم بعد صلاة الغروبأنا مدعو للعشاء عند الشيخ شنان آل رباط .. أرجو أن تأتي ..
شعرمظلوم بفرح حقيقي ... فللشيخ شنان آل رباط عند مظلوم منزلة كبيرة وقد سمععن حكمته ورجاحة عقله وكرمه ومواقفه الوطنية الكثير .. منها موقفه حينأرسل إليه السفير البريطاني في العراق عام 1957 مندوبا للقائه فاستقبلهالشيخ في مضيفه .. وخلال الحديث سأل المندوب الشيخ : هل الشيعة في السماوةهم الأكثرية أم السنّة ؟ فما كان من الشيخ شنان إلآ أن يقول لحامل " دلّةالقهوة " : أعِدْ الدلّة للوجاق ... وقال للمندوب : كنت عقدت العزم أنأذبح خرافا عديدة وليمة لك .. أمّا وأنت تسألني هذا السؤال فإن جوابي لك :إخرجْ الان من مضيفي فلستَ أهلا ً لدخوله ، نحن لانعرف مَنْ منّا الشيعيومَنْ السنّي ...
الحاج عباس كان من بين شهود هذا الحادث وهونفسه الذي ذكرها لابنه مظلوم الذي كان قد سمعها من أناس كثيرين .. لكنمظلوم كان ذاته شاهدا على حدثين آخرين عن حكمة الشيخ شنان وكرمه ... الأولعام 1963 حين تحصّن أفراد " الحرس القومي " في مقرّهم الواقع في شارعالجسر الحديدي / الصوب الكبير بقيادة آمرهم " كمال السامرائي الكليدار "معتزمين مقاتلة أهل السماوة الذين أحاطوا المقر ... دخل الشيخ شنان إلىالمقر رغم الرصاص المنهمر من الجانبين ... وما هي إلآ ساعة أو نحوها وإذابأفراد الحرس القومي يخرجون بـ " الملابس الداخلية " مستسلمين فحقن دما ًكثيرا ... والحادثة الأخرى بعدها بشهور ، حين حدث الفيضان الكبير فأغرقجانبا كبيرا من السماوة ، يومها حضر إلى السماوة رئيس الوزراء آنذاك "طاهر يحيى " ليشرف على جنود الفرقة الأولى الذين حضروا من الديوانية ...كان يوما عصيبا .. جميع أهالي السماوة من صبية وشباب وشيوخ ونساء شاركواالجنود في ملء أكياس الجنفاص بالتراب لصنع سدّ على امتداد النهر ... الشيخشنان أقام وليمة ربما هي الأكبر لا في تاريخ السماوة فحسب ، إنما فيالعراق كله ... لقد أولم لأكثر من عشرة آلاف جندي ومدني ... وليمة ذبحفيها مئات الخراف أقامها في بستانه ولم يقبل أن يشاركه أحد من أثرياءالسماوة ووجهائها والإدارة المحلية بتحمل فلس واحد من تكاليفها .
قال مظلوم لوالده : سأكون عندك قبيل الغروب وسأذهب معك لأتناول بعض فاكهة الحكمة من هذا الرجل الذي أكنّ له محبة كبيرة حقا ..
في منتصف ذلك الليل الثلجي ،وكان الظلام شديدا ، سمع مظلوم صوتا يشبه صوت مزاريب السطوح وقت انهمارالمطر .. وحين حدّق جيدا ، رأى عسكريا يتبوّل واقفا مثل كلب على مقربة منالملجأ المحاذي لورشة التصليح ... ولأن مظلوم قرويّ ، فقد صاح به : رجاءإرفع رجلك حين تتبوّل ...
كان مظلوم يظن الذي يتبول ، كلباآدميا ً.. وبحسب ثقافته القروية ، فالكلاب لا تتبول إلا واقفة رافعة أحدالساقين الخلفيين ... ثم أن مظلوم يعتقد أن للقبور حرمتها ، فلا يجوزالتبوّل عليها أو قربها ...هذا كل ما في الأمر ... مظلوم كان يعتقد أنجنديا من جنود وحدته هو الي أفرغ مياه مثانته قرب قبره الذي يُطلق عليهإسم ملجأ ... لم يكن مظلوم يتوقع أن ذلك المتبول ، هو ضابط طيار يحمل نوطيشجاعة ، والذي ربما كان في زيارة أحد اصدقائه الضباط في مفرزة التصليح ،أو في زيارة للواء ، فغالبا ما كان الزوار يتركون سياراتهم في رحبةالمفرزة ومن ثم تقلهم الى الجبهات سيارات عسكرية مموهة بالطين أو بشباكتشبه شباك صيادي الأسماك ..
تقدم الضابط من مظلوم وهو يطفح غضبا... ومن سوء حظ مظلوم أنه لم يغلق راديو الترانزستور تلك اللحظة ، فقد كانيستمع الى تقرير إخباري من إذاعة لندن حول معارك " الفاو " وما لحق بالجيشالعراقي من خسائر جسيمة كان يمكن تلافيها لولا جهل وغباء ونرجسية القائدالعام للقوات المسطحة .. عفوا ، القوات المسلحة ..
" عميل ..خائن .. جبان .. لا بد من عقابك .. يا سافل .." هكذا صرخ الضابط بوجهمظلوم حين عرف انه كان يستمع الى إذاعة لندن .. ويبدو أن الضابط قد نجح فياستفزاز مظلوم ، الذي أجابه بشيء من السخرية : أطبق فتحة سروالك أولا ،واستعمل حفاظات بامبرز إذا كنت سريع التبول ولا تملك السيطرة على نفسك ..إستشاط الضابط غضبا فصفع مظلوم على وجهه فإذا بمظلوم يفقد أعصابه فيبصقعلى وجه الضابط ويرفسه في بطنه فسقط إلى الأرض ليس بسبب قوة رفسة مظلومإنما من أثر السكر ... تعالى صراخ الضابط الذي اتضح أنه برتبة رائد ..وهرع رديف مظلوم في الحراسة الجندي " إسماعيل الفيترجي " إلى آمر المفرزةليوقظه .. واستيقظ جنود المفرزة كلهم .. جاء آمر المفرزة الملازم أول "مسلم عبد درو " والذي وقف لمظلوم موقفا ً مشرّفا سيبقى محفورا في لوحذاكرته أبدا .. قال للضابط الطيار بلهجة حازمة : لا أسمح لك سيدي الرائدبالإعتداء على جندي من جنودي اثناء تأديته واجبه .. وسنفتح تحقيقابالموضوع .. يؤسفني أن أقول إنك اعتديت وأنت في حالة سكر شديد .
ومعأنني اعترفت لآمر المفرزة ببصاقي على غريمي إلآ أنني نكرت رفسي له ،مدّعيا أنه سقط إلى الأرض بفعل سكره الشديد ، فنصحني بأن أنكر بصاقي عليهورفسي له .. لكنني كنت صادقا في قسمي بأنني لم أكن أعرف أنه ضابط ،فالظلام كان حالكا وكانت رتبته المطرّزة بخيوط غامقة على بدلته الزرقاءغير واضحة ..
كان موقفا شهما وشجاعا من آمري الشاب النبيل ابنأحد فلاحي ريف الديوانية .. يومها اكتشفت أن أكثر الجنود هم طيبون ورائعونعلى العكس من الضباط فأكثرهم لا يتوانون عن استغلال جنودهم ـ وبخاصة أبناءالأثرياء ـ والقلة منهم طيبون .
صحيح ان مظلوم يجنح الى الخبثأحيانا ، لكن الصحيح ايضا ، هو على قدر كبير من الطيبة والألفة .. فهووإنْ كان خبيث القصد عندما طلب من المتبول رفع أحد ساقيه، إلا انه لم يكنيقصد إهانة المرسوم الجمهوري الذي منح الضابط رتبته العسكرية ... ولم يكنيقصد إهانة بطاقة عضوية الحزب التي اتضح فيما بعد أنه يحملها ـ على رغمقناعة مظلوم بأن بطاقة العضوية تلك لا تعدو كونها سُبّة وشتيمة لحامليها ،وبخاصة بعد نجاح " المهيب الركن الذي لم يدرس العلوم العسكرية ولو في ثكنةشرطة " بإفراغ الحزب من معانيه الوطنية والقومية والإنسانية ، ليغدو مجردتابع من توابع سلطته وأداة من أدوات نرجسيته المنفلتة برعونة وحمق ..
أزعم أنني أعرف " مظلوما " بشكل جيد ... انه عنيد كالبغـل ..لكنه ايضاوديع كحمامة .. له قدرة على تحمل الضرب والصفع والركل والسياط والكيبلات ،وحتى العضّ والرفس والنطح دون أن يصرخ أو يتأوه ـ قدرة قد لا يملكها حمارابن مدينته " حمادة العربنجي " لكنه في نفس الوقت ، يمكن أن تدمع عيناهلرؤية طفل حافي القدمين .. أزعم انني أعرفه تماما ... وبموجب هذه العرفة ،أقول جازما ، إنه كان يستمع ـ كلما سنحت له الفرصة ـ الى إذاعة لندن "وإذاعات أجنبية أخرى " مع علمه أن هذا الاستماع ممنوع ... الجنود كلهمكانوا يستمعون خلسة للإذاعات الأجنبية .. بل وحتى آمر المفرزة نفسه كانيستمع للإذاعات الأجنبية لمعرفة حقيقة الأحداث .. مظلوم شديد الكراهةللأناشيد التي تتحدث عن بطولات وهمية وانتصارات لا وجود لها إلآ داخلاستوديوهات اذاعة صوت الجماهير واذاعة بغداد وفي أروقة الماخور الإعلاميالذي يشرف على إدارته "غوبلز " جديد في دولة رايخشتاغ القصر الجمهوريببغداد لصاحبها الفوهرر " مطيحان " ..
لقد اعتقد مظلوم أن السيدالضابط الطيار أراد من وراء اتهامه بتهمة العمالة ، الحصول على اعتذاريليق برتبته العسكرية ودرجته الحزبية .. ولقد اعتذر مظلوم حقا .. اعتذرصادقا ، وأقسم للضابط بالله وكتابه ، أنه كان يعتقد أن المتبول هو نائبالعريف " ناجي هجرس " أو الجندي المطوع " اسماعيل الفيترجي " الذي سبقوتبوّل واقفا قرب ملجأ الطباخين .. أما أن يصبح الاستماع الى إذاعة لندنجريمة تصل حدّ الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي ، فأمر لم يكن مظلوميتوقعه ، وكان يمكن أن يودي بحياته لولا شهامة الملازم أول عبد مسلم دروالذي أمر جنود المفرزة بالشهادة على أن الضابط كان ثملا ً وأنه هو الذياعتدى على مظلوم .. لم يكتفِ بهذا ، فاتصل بالنقيب " كاظم " ضابط التوجيهالسياسي للواء والملازم أول " سلمان كريم " آمر سرية اللواء باعتداءالرائد على مظلوم خلال واجب الحراسة الليلية .. من جانبه ذهب مظلوم صباحاليوم التالي إلى مقر قيادة القوات البحرية ليلتقي ابن مدينته وصديقهالعقيد " محسن علي عكلة " العضو المهم في المكتب العسكري لحزب مطيحانفأحسن استقباله ووعده بتدارك الأمر (مع عتاب يأخذ شكل التوبيخ والنصيحةلمظلوم الذي نقل له تفاصيل الحادث بصدق ) ..
حين عاد مظلوم منمقر قيادة القوات البحرية ، قال له آمر المفرزة : لقد أدرجت اسمك ضمن "قائمة الإجازات الدورية التي ستصدر بعد ساعات " رغم أن استحقاقك لها سيكونبعد اسبوعين ، فعلينا إبعادك من المعسكر تحسُّـبا لتوقيفك ومحاكمتك في حالفشلت مساعينا لإقناع الرائد طه بالتنازل وتسوية المشكلة ، فقد اتصل بيالعقيد محسن علي عكلة وسيزورني عصرا لنبحث في إيجاد مخرج يقيك تبعات تصرفك....
غادر مظلوم وحدته تجاه كراج نقل المسافرين في ساحة سعد ـ وليته أمضى إجازته داخل المفرزة !
دلف إلى سوق " حنّا الشيخ " القريب من وحدته في العشّار ليشتري دميةلطفلته الوحيدة ... تحدث من هاتف عمومي مع زوجته وطفلته ليخبرهما أنه فيطريقه إليهما .. فرحتْ شيماؤه حين أخبرها عن الدمية فسألته عن شكلها ..قال لها : دمية لها ضفيرتان طويلتان كضفيرتيك وعينان عسليتان واسعتانكعينيك وتبكي حين تخرجين " مصّاصة الرضاعة " من فمها ..
حين غادرالمحل نسي مظلوم أن يلبس حذاء الرأس " البيرية " حتى إذا وصل جسر العشارسمع صوتا يُنادي : " أبو خليل .. أبو خليل " .. لكنه تجاهل الصوت ولميلتفت إلى مصدره .. خطوات ويُفاجأ بأحد جنود الإنضباط يسحبه من قميصهقائلا بصلف : لماذا تتجاهل النداء ؟ أجابه مظلوم : لكنك لم تنادني يارجل.. قال الجندي : أنت تكذب .. ناديتك مرتين " أبو خليل .. أبو خليل " ...أجابه مظلوم : نعم سمعت هذا وظننتك تنادي شخصا آخر ، فأنا أبو شيماء وليسأبو خليل .. ( الجندي لم يعد ممسكا بالقميص ... بات ممسكا يد مظلوم بقوةخشية أن يهرب !) ..
جاء جنديان آخران من جنود الانضباط فأرغمامظلوم على الصعود إلى سيارة الانضباط العسكري .. ثمة في السيارة نحو عشرةجنود .. حاول إقناع آمر مفرزة الانضباط بالسماح له بإخلاء سبيله ولو عطفاعلى طفلته التي تنتظر دميتها .. لم يكن آمر مفرزة الانضباط أصمّ بدليل أنهأجاب مظلوم : أكرمنا بسكوتك ..
توقفت السيارة في صحراء الشعيبة حيثموقع سجن انضباط قوات محمد القاسم .. أُدخِل مظلوم إلى حجرة من الصفيح ...يقسم مظلوم أن مساحتها لاتتعدى الخمسين مترا متربعا .. كانت حجرة تعليببشري .. مُعتقل فيها أكثر من مئة جندي .. لاثمة بساط ـ لأن الغرفة لاتتسعللجلوس أساسا فما ضرورة البساط ؟ .. ولاثمة نافذة تعمل على تجديد الهواء.. ولا ثمة مدفأة تقلل من ارتجاف الخراف المعلّبة داخلها .. ولا ثمة ولوفتحة في جدار الصفيح تُـتيح لأحد فرصة " إخراج إحليله " ليتبول حين تحتقنمثانته ..
مظلوم طلب بدء نزوله من السيارة الذهاب إلى مكانالتبول فدفعوا به إلى داخل غرفة التعليب هذه .. وحين صاح من خلف الباباستنجادا ، أجابه صوت ساخر : مسموح لك التبوّل على نفسك أو فاصبر حتى يحينموعد التبوّل !
للتبوّل إذنْ مواعيد في قادسية مطيحان !
تنمّلت قدماه .. واستطاع بعد جهد الحصول على موطئ قدم قرب جدار الصفيحأراح ظهره إليه .. وأكثر ما أرهق مظلوم انتفاخ مثانته ومحاولته إبعاد دميةابنته عن الأجساد الملتصقة به .. لم يصدّق مسمعه حين تناهى إليه صوت شخيرمتقطع .. !! ومَنْ يدري ؟ فربما يكون مظلوم أيضا قد غفا واقفا ، لذا سألالجندي الملتصق به : هل شخرت أنا ؟ أجابه : لا .. لكن الدمية صدر منها صوتبكاء !
قبيل الغروب فُتحت باب غرفة التعليب .. قال الحرّاس :سيخرج كل عشرة جنود إلى دورات المياه لمدة عشر دقائق للتبوّل ولشرب الماء... ومن يتأخر يُعاقب ..
أفرغ مظلوم قِربة مثانته واقفا مثل كلب .. وشرب ماء من ذات الخزان الذي يُستخدم ماؤه للتنظيف ..
عندالغروب ، أخرجونا جميعا إلى فضاء محاط بسياج من الصفيح : إنه موعد شِراءطعام العشاء : صمّونة بائسة وبيضة مسلوقة وشريحة طماطم مع كوب شاي أكثربؤسا بنصف دينار !!! لقد وضح جانب من الصورة .. آمرية الإنضباط العسكريإذن وجدت في الجنود منجما ً لجني النقود !!
مظلوم ـ وغيره كثيرونـ تظاهر برغبته تناول" سندويشة ثانية وكوب شاي ثان ٍ كي يُطيل فترة بقائهخارج حجرة التعليب الآدمي .. وكذا كان الحال مع فطور الصباح ومن ثم طعامالغداء حين خدمته المصادفة برؤية ضابط برتبة نقيب ، يبدو أنه آمر المعسكرفشرح له ماحصل وأراه نموذج إجازته فنجح في إقناعه بإطلاق سراحه .. وصلمظلوم بيته في اليوم الثالث من إجازته وهو أكثر حقدا على مطيحان وقادسيتهوجنرالاته وحزبه ، وبدأ يخطط لهروبه في الوقت المناسب ، معاهدا الله علىأنه لن يرمي طلقة واحدة على الجيش الإيراني حتى لو وصل مشارف القصرالجمهوري حيث يقيم القائد العام للقوات المسطحة على مقربة من طائرتهالمهيّأة للإقلاع عند الضرورة !
**
قررمظلوم أن يُفاتح والده بشأن عزمه على الهروب من العراق .. ( كان والدمظلوم يردد دائما : أمنيتي الوحيدة هي أن أرى نهاية مطيحان وهو يُسحل فيالشوارع تدوسه أقدام ضحاياه ) ..
أجابه والده : تريّثْ وليدي ..هذولة ظالمين وعديمين الشرف والضمير .. إذا هربت راح ينتقمون من إخوانكوأخواتك .. تتذكر لمّا أحضروني آني وأمك وأخواتك وأخوانك السنة الماضيةوهددونا بالتسفير إلى إيران حين كنت أنت موقوف وضربني الشرطي راجدي أمامك؟سلّمْ أمرك لله وليدي واصبر .. كل شدّة ولها فرج .. بعدين ياوليدي عنديسؤال : ليش ماتترك عنادك وتسجّل بعثي ؟ والله العظيم مدير الأمن بنفسه بعثلي خبر ويقول إذا تسجل بعثي يرجعونك للتدريس ..
أجابه مظلوم :نعم أتذكر كيف أحضروكم في مديرية أمن البلدة أنت وأمي وأخواتي وأخوتيلتهديدي بالتسفير .. وأتذكر أنك قلت له : سيدي آني شهادة جنسيتي عثمانيةأصلية وعشيرة بني حِسَـنْ " معروفة بعروبيتها .. لكن يا حاج هل تتذكر أنتجوابي حين قلت لي : " أختك غيداء خطبها موظف حكومي كبير وعضو فرقة بحزبالبعث " فما رأيك ؟ أتتذكر جوابي ياحاج ؟ أتتذكر أنني قلت لك : إذاغيداءتزوجت عضو فرقة بعثي سأقتلها غسلا للعار ؟
الحاج عباس لم يقلسوى " حسبي الله ونعم الوكيل " ... ثم قال لمظلوم : اليوم بعد صلاة الغروبأنا مدعو للعشاء عند الشيخ شنان آل رباط .. أرجو أن تأتي ..
شعرمظلوم بفرح حقيقي ... فللشيخ شنان آل رباط عند مظلوم منزلة كبيرة وقد سمععن حكمته ورجاحة عقله وكرمه ومواقفه الوطنية الكثير .. منها موقفه حينأرسل إليه السفير البريطاني في العراق عام 1957 مندوبا للقائه فاستقبلهالشيخ في مضيفه .. وخلال الحديث سأل المندوب الشيخ : هل الشيعة في السماوةهم الأكثرية أم السنّة ؟ فما كان من الشيخ شنان إلآ أن يقول لحامل " دلّةالقهوة " : أعِدْ الدلّة للوجاق ... وقال للمندوب : كنت عقدت العزم أنأذبح خرافا عديدة وليمة لك .. أمّا وأنت تسألني هذا السؤال فإن جوابي لك :إخرجْ الان من مضيفي فلستَ أهلا ً لدخوله ، نحن لانعرف مَنْ منّا الشيعيومَنْ السنّي ...
الحاج عباس كان من بين شهود هذا الحادث وهونفسه الذي ذكرها لابنه مظلوم الذي كان قد سمعها من أناس كثيرين .. لكنمظلوم كان ذاته شاهدا على حدثين آخرين عن حكمة الشيخ شنان وكرمه ... الأولعام 1963 حين تحصّن أفراد " الحرس القومي " في مقرّهم الواقع في شارعالجسر الحديدي / الصوب الكبير بقيادة آمرهم " كمال السامرائي الكليدار "معتزمين مقاتلة أهل السماوة الذين أحاطوا المقر ... دخل الشيخ شنان إلىالمقر رغم الرصاص المنهمر من الجانبين ... وما هي إلآ ساعة أو نحوها وإذابأفراد الحرس القومي يخرجون بـ " الملابس الداخلية " مستسلمين فحقن دما ًكثيرا ... والحادثة الأخرى بعدها بشهور ، حين حدث الفيضان الكبير فأغرقجانبا كبيرا من السماوة ، يومها حضر إلى السماوة رئيس الوزراء آنذاك "طاهر يحيى " ليشرف على جنود الفرقة الأولى الذين حضروا من الديوانية ...كان يوما عصيبا .. جميع أهالي السماوة من صبية وشباب وشيوخ ونساء شاركواالجنود في ملء أكياس الجنفاص بالتراب لصنع سدّ على امتداد النهر ... الشيخشنان أقام وليمة ربما هي الأكبر لا في تاريخ السماوة فحسب ، إنما فيالعراق كله ... لقد أولم لأكثر من عشرة آلاف جندي ومدني ... وليمة ذبحفيها مئات الخراف أقامها في بستانه ولم يقبل أن يشاركه أحد من أثرياءالسماوة ووجهائها والإدارة المحلية بتحمل فلس واحد من تكاليفها .
قال مظلوم لوالده : سأكون عندك قبيل الغروب وسأذهب معك لأتناول بعض فاكهة الحكمة من هذا الرجل الذي أكنّ له محبة كبيرة حقا ..
**