يزعم مظلوم أنّ له خبرة جيدة فيما يتعلق باستدعاءات الجنود والمراتب الىالإستخبارات العسكرية ... وبحسب خبرته المزعومة تلك ، يرى مظلوم أنه
إذاقامت الوحدة العسكرية بتسليم منسوبها كتابا مغلقا كُتِبَ عليه " سريللغاية " بدون "مأمور " يرافقه ، فذلك يعني أن المسألة لا تستوجب الخوفوالقلق .. وكل ما سيجري ، هو ، تحقيق روتيني ، وربما التقاط صورة جديدة لهليزداد عدد صفحات " إضبارته " التي افتُتِحتْ في مسقط رأسه ، ولن تُغلققبل دخوله القبر .. أما إذا سُلِم الكتاب " السري للغاية " الى " مأمور"يرافقه من الوحدة العسكرية الى رئاسة الاستخبارات في بغداد ، فالمسألة لنتخلو من " طقم كامل من الصفع والرفس والنطح والكلام البذيء " لكن هذا"الطقم " لن يقود الى الموت ، ولا الى عاهة مستديمة ... فالموت ، او العاهةالمستديمة ستحصل إذا أرسلت رئاسة الإستخبارات العسكرية " مأمورا " منهاليصطحب الشخص المحدد مخفورا ً تطبق على يديه الجامعة الحديدية " كلبجة ".. لذا لم يقرأ مظلوم الفاتحة على روحه ولم يرتبك ، حين استدعاه ليلا آمرالمفرزة ليقول له :
ــ عرفت من النقيب كاظم أن كتابا سريّا للغايةورد من رئاسة الإستخبارات العسكرية / الشعبة الخامسة يقضي بحضورك ، وسيتمإرسالك مخفورا صباح الغد .. فهل أنت متأكد من أنك لم ترتكب عملا ً محظورا ؟
ــ نعم سيدي ... أنا متأكد تماما ... أنا أحاذر حتى من أحلامي ..
ــتذكّر جيدا أن الكتاب من رئاسة الإستخبارات العسكرية وليس من سرية المقرأو من شعبة التوجيه السياسي في اللواء ... راجع مع نفسك إنْ كنت تصرفتتصرفا محظورا .. أمامك الليل كله ، وإياك أن تخبر أحدا ً أنني أطلعتك علىما أخبرني به النقيب ..
ــ إطمئن سيدي ... وليتك تستحصل موافقةالسيد النقيب لأسافر ليل اليوم كي أصل بغداد صباحا ... لم أرتكب محظورا ..والحكمة تقول إنّ النائم على الأرض لا يخشى السقوط من السرير ..
(لمظلوم يقينٌ أنّ آمر المفرزة والنقيب كاظم معا ، أوصلا له خبر كتابالإستخبارات كي يُعطياه فرصة الهرب فيما إذا كان قد ارتكب ماهو محظور ..أمّا وأنه متأكد من أنه لم يقم بأمر ٍ يُخشى منه ، فقد قرر تهيئة نفسهللسفر ليلا قبل الصباح ـ خصوصا وأنه عرف أن المأمور الذي سيذهب به هو جنديمن جنود وحدته ، وهذا يعني ـ حسب خبرته ـ أنّ المسألة لن تكون أكثر منتحقيق روتيني قد يُتبع بصفع وركلات وكلام بذيء كما في الإستجوابينالسابقين )
سافر مظلوم والجندي المرافق قبل انتصاف الليل .. ..الجندي المأمور كان طيبا حقا لدرجة انه سمح لمظلوم بمهاتفة زوجه والتحدثمع طفلته ، ومن ثم السماح له بزيارة بيت شقيقته في اليرموك ببغدادليتناولا معا طعام الإفطار ..
نحو التاسعة والنصف صباحا كان ـالجندي احتياط خرهْ ـ مظلوم بمعية الجندي المأمور يجلسان في غرفةاستعلامات رئاسة الاستخبارات العسكرية .. إستلم مسؤول الإستعلامات كتابالإرسال وقاد مظلوم نحو غرفة مزدحمة بعدة جنود وبضابطين أحدهما برتبةملازم أول والآخر برتبة رائد .. ثمة أصوات صراخ وبكاء تتسرّب من مكان غيربعيد .. يقسم مظلوم أنه رأى سيقان بعض الجنود الجالسين على مقربة منهترتجف مع أن الفصل لم يكن شتاء .. استمر الإنتظار ساعات عدة .. لا يدري كمساعة ، فكل الذي يدريه أنه دخّن علبة السجائر كلها .. وحين طلب من مسؤولالغرفة الذهاب إلى الحمام أجابه بسخرية : " إصبر ... راح تاخذ حريتكبالتبول بعد قليل " .. !!
قبيل الظهر ، لم يبق في الغرفة غيرمظلوم ... بين فينة وأخرى يُطِلّ على الغرفة عسكري ضخم ذو شكل قبيح يُحدّقبمظلوم بعينين وحشيتين ويتحدث بضع كلمات مع الجندي الحارس ثم يخرج .. فيإطلالته الثالثة سأل مظلوم : هل أنت قطة بسبعة أرواح ؟ كيف خرجت حيّا ً منهنا مرتين سابقا ؟
**
أقتيد مظلوم بين عدد من الكرفانات ثم أدخل به حجرة أنيقة ..
بادره العسكري الجالس وراء مكتب أنيق يتصفح إضبارة ضخمة بالقول وهو يمدّ إليه أوراقا ناصعة البياض كالأكفان :
ـ تفضل إجلس .. أكتب بالتفصيل إسماء الخلية الشيوعية في المعسكر ..
ــسيدي الفاضل ، أنا جندي في مفرزة تصليح لايتعدى عديدها بضعة عشرات من جنودبسطاء أكثرهم لايتجاوز تحصيله محو الأمية أو الدراسة الابتدائية وليست ليأية علاقة سياسية بأي حزب .. أقسم سيدي أنني صادق بقولي .. ولو كنت غيرصادق لما بكّرتُ بالحضور ..
ــ وصحيفة طريق الشعب التي عثروا عليها في الملجأ ؟
ــلا علمَ لي بوجود مثل هذه الجريدة .. بمقدورك سيدي أخذ بصمات أصابعي وإذاوجدتم على الجريدة بصمة لي فأنا أطالبكم بإعدامي .. أنا صادق سيدي ..
ــدع المسكنة واعترف وإلآ فلنا طرقنا وأساليبنا التي تجعلك تتوسل كي نسمعاعترافاتك .. اكتب أسماء الخلية وأنا أعدك بشرفي وبالله أنني سأساعدكوستخرج إلى بيتك أو وحدتك بعد لحظات .. كن رؤوفا بنفسك واكتب أسماء الخلية.
ــ أكتب أنت سيدي ماتشاء من أسماء جنود قاطع شرق البصرة وسأوقعلك دون أن أقرأها إذا كان ضميرك يرضى ذلك .. أقسم بالله العظيم وكتابهوبحياة طفلتي أنني أكثر براءة من تهمة الذئب بدم يوسف ..
ــ ألعن أبوك لا أبو يوسف .. إنتم مايفيد وياكم إلآ القسوة ..
ــ والله ياسيدي أنا لا أعرف إنْ كانت طريق الشعب تُطبع أو لا تُطبَع .. ولا أعرف إنْ كان للحزب الشيوعي تنظيم من عدمه ..
أخرج المحقق من بين أوراق الإضبارة الضخمة كتابا أنيقا بغلاف أبيض وقال لمظلوم : أحب أسمع قصيدتك بصوتك ... شنو رأيك ؟
ــ أي قصيدة سيدي ؟
أراهالمحقق عنوان الكتاب : ( سلاما أيها الحزب ) ... فأجابه مظلوم : نعم سيديأتذكر هذا الكتاب ... إنه يضم أكثر من ثلاثين قصيدة قيلت عن الحزب الشيوعيلشعراء منهم على ما أذكر جمال الحيدري ، محمد مهدي الجواهري ، سعدي يوسف ،يوسف الصائغ ، خليل المعاضيدي ، خليل الأسدي ، الفريد سمعان ، دينارالسامرائي ، عبد الكريم كاصد ، محمد صالح بحر العلوم ، رشدي العامل ،وربما البياتي والسياب .. لا أذكر تماما ... الكتاب أصدره الحزب لمناسبةالذكرى الأربعين لتأسيسه ونشرته دار الفارابي اللبنانية ... إنه قديم سيديمضت على صدوره أعوام عديدة ، وأنا كنت حزبيا آنذاك .. أما الان فلا علاقةلي بأي حزب سيدي ..
ــ وماذا عن علاقتك بالعقيد حمزة الربيعي ؟
ــ هو ابن خالتي وزوج شقيقتي سيدي ..
ــ نعرف ذلك ... لكننا نريد أن نعرف أسماء الخلية الشيوعية في وحدتك ..
ــ إنْ كانت توجد خلية فعلا فأنا لا علم لي بها والله ..
ــ لقد اعترف أحد أفرادها عليك ..
ــ واجهوني به سيدي .. لايمكن أن يكون هذا صحيحا .. لا يمكن سيدي ..
ــ ( ضغط المحقق على جرس كهربائي فدخل شاب يرتدي بدلة زيتونية .. أدى له التحية )
قال له المحقق : خذه إلى غرفتك ليكتب أسماء الخلية ..
قلت بصوت مفجوع : كنت صادقا معك سيدي .. فارأف بي لصدقي ..
سحبنيذو البدلة الزيتونية من ذراعي .. وحين أدخلني غرفته صفعني بقوة ورفسنيفسقطت إلى الأرض .. بصق عليّ شخص آخر ورفسني على ظهري قبل أن يخرج .. ثمأغلق الباب ..
ــ إسمعْ جيدا ... سأجعلك تتمنى الموت إذا لم تعترف .. أكتب أسماء الخلية بدون تأخير ..
ــ كيف أكتب عن شيء لا وجود له ؟ أقسم بالله أنا صادق ..
(طاخ .. طاخ .. طيخ .. طاخ طيخ ... ) وانهال ذو البدلة الزيتونية بالصفعوالرفس والركل والوخز بعصا ً تجعل دم الجسد يغلي ... بينما مظلوم متكوّرعلى جسده كالقنفذ ... ازداد الضرب شراسة ... فجأة : تعثر الجلاد بالكرسيفسقط إلى الأرض ... وبشكل لا إرادي قال مظلوم لحظة سقوط جلاده : سلاماتإنشالله .. سلامات أخي ..
بَهتَ الجلاد فقال : ماذا ؟ سلامات ؟
ــ نعم سلامات .. أنا سبب سقوطك إلى الأرض فسامحني .. أعرف أنك مرغم على تعذيبي .. أنت أيضا بريء مثلي ..
ازدادذهول الجلاد ... حدّق بوجه مظلوم ... أعطاه منديلا ورقيّا ليمسح الدم منأنفه ... استمر الصمت دقائق .. أخرج الجلاد علبة سجائره .. دخن سيجارة ثمقال لمظلوم : لماذا لم تصرخ ؟ سأضربك ضربا خفيفا وعليك أن تصرخ بقوة وتبكي.. مفهوم ؟
أجابه مظلوم بصوت يشبه نحيبا دون دموع :
ــ ما أعرف أصرخ سيدي .. ولا أعرف أبكي ... نعم أنا أحتاج أن أبكي .. ولكن ليس أمامك .. غادر الغرفة وسأبكي والله ..
ــ لا تصير حمار ... إصرخ وابكي بالكذب ..
ــ سيدي ابسطني براحتك .. ما راح أبكي ...
ـ طيب إصرخ بصوت عالي ..
ــ والله سيدي ما أعرف أمثّل .. إذا أصرخ كذب راح ينكشف التمثيل وأنت تتحاسب ..
ثمةدمع كثيف ولكن خلف الأجفان ... دمع خشن كبرادة الحديد أبى إلآ أن يهطل منالأحداق نحو الروح ... دمع غير مرئي لا يراه إلآ مظلوم الذي قال للجلادبتودد :
ــ ممكن تنطيني جكارة ؟ أحتاج أدخّن ..
آه يا إلهي!! حتى في مستنقعات القسوة هذه يوجد طيبون !! لقد وضع الجلاد علبة سجائرهأمام مظلوم ... سجائر روثمن .. وغادر الغرفة ... حينها شعر مظلوم بسائلساخن انزلق من عينيه حتى وصل شفتيه وكان مالح المذاق ... سائل صاف ٍكالندى المخلوط بالملح !!
مرّت دقائق وعاد ذو البدلة الزيتونية ليخبر مظلوم أن الضابط يدعوه .
***
تقضّل إجلس ( قال المحقق لمظلوم ) ثم سأله : هل تعرف في السماوة بيت " داخل الحاج مدو " ؟
ـنعم سيدي .. إنهم جيران بيت جدي لأمي الحاج رزاق .. وبيننا صلة قربى بعيدة... إبنه الكبير اسمه صالح .. يليه " كاظم "... وابنه الآخر " شاكر " كانزميلي في الابتدائية .. والأصغر " كريم " ولهم شقيقة أعتقد أن اسمها "إلتفات " وجميعهم الان في الكويت باستثناء كاظم الذي يعمل الان خياطا فيالسماوة ... إنها عائلة فاضلة لا شغل لها بالسياسة ... سمعت مؤخرا أن "شاكر " توفاه الله بالسرطان ..
فوجئ مظلوم بقول المحقق :
زوجتيمن أحد بيوت " آل حاج مدو " ... حقا هي عائلة طيبة ... وستخرج الان إكرامالها ... لكن تذكّر جيدا أن الحظ لن يكون معك دائما .. وليس جميع المحققينمتزوجين من أهالي السماوة ... احترس جيدا من أي عمل محظور ... واحذر أنتخبر أحدا أنك تعرضت لبعض سوء المعاملة في الشعبة الخامسة .. أكرمتك مرةواحدة ... ولن أكرمك مرة أخرى ..
**
لم يصدّق مظلوم عينيه حين رأى نفسه داخل سيارة لاندكروز وقد اجتازت بوابةرئاسة الاستخبارات العسكرية متجهة به نحو الشارع العام ... تساءل في سره:
هلحقا كان المحقق صادقا عندما أخبرني انه متزوج من إحدى عوائل مدينة السماوةـ وتحديدا من عائلة جارنا القديم وقريبنا "داخل حاج مدو " ؟ وهل حقا كانترأفته بي ، إكراما لعائلة زوجه ؟ وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا ترك مستخدميهيتدربون بجسدي على لعبتي الملاكمة وكرة القدم ، متخذين من وجهي سطلاللبصاق ومشجبا للصفعات ؟ لا ... لا يامظلوم، لا تصير غشيم ـ قال في نفسه ـاليوم يشوون البصل على اذنك ... إي والله ... هو المحقق نفسه كاللي إعترفكبل ما ياخذونك ويشوون البصل على إذنك ... طيب ، لكن ليش انطاني ورقةرابوط طبي بيها إجازة لمدة اسبوعين ؟ مو بس الإجازة ، لا ... فوكاها باكيتجكاير سومر أصلي ، وسيارة لاندكروز توصلني لكراج علاوي الحلة ّ؟؟؟ صحيحآني ما أكدر أمشي من الرضوض .. وصحيح خشمي مورم وأحس فد شي مثل القطاريجعر داخل إذني ، بس ليش ما تركني اطلع وحدي وآني آخذ تاكسي .. شنو يعنيما عندي فلوس ؟ لا ... عندي سبع دنانير عدا الخردوات ... لا يامظلوم ،المسألة بيها سر .. إي والله بيها سر ... إلهي دخيلك .. انقذني هالمرّه ،وأعاهدك راح أصوم وأصلي وأترك كل السوالف المكسرة .. ( ثم وهو يحدث نفسه ): راح أطش واهلية نذر للكاظم ... وأدز كونية تمن لبيت الفقير الشحاذ حسينالأعمى نذر للعباس أبو فاضل ... وأنطي ملابسي القديمة للفقراء في سبيلالله ... إلهي دخيلك .. إنقذني هاي المرّة بحق النبي عندك ... إلهي وحقعزتك وجلالتك ، راح أترك كل السوالف الموزينه .. انته ومروتك إلهي بسخلصني هالمره ، وشوفني شلون راح أصير مؤمن حقيقي يصوم ويصلي ومايشرب عرك.. آني دخيل عندك إلهي .. انته تعرف هذوله اشلون سرسريه وأولاد كلب .. !!!واحدهم أنجس من لحية الشمر بن ذي الجوشن وأوسخ من جزمة يزيد بن معاوية ..
معقولةالمحقق بعد كل ذاك الدك والكتل والطحلات والراجديات والرفس والكيبلوالتفال ، ينطيني إجازة لمدة اسبوعين وباكيت جكاير سومر أصلي وفوكاهاسيارة لاندكروز توصلني لباب كراج علاوي الحلة ؟ والله العظيم بس الحماريصدك ... لا يابا لا ..
المسأله بيها سر ...
استمر مظلوم في هذيانه وذهوله الصامتين ... وفكر مع نفسه بالقفز منالسيارة حالما تسنح الفرصة المناسبة ... لكنه تذكر أن قدميه المتورمتين لنتساعدانه ... وحتى لو تساعدانه ، وبحسب خبرته ـ فالتعذيب سيكون أكثر قسوةفي حال الإمساك بالهارب ..
" لم يستبعد مظلوم احتمال أن يتعمد السائق توفير فرصة الهروب له كي يقتله برصاصة من مسدسه الواضح للعيان .. "
حين عبرت السيارة جسر الاعظمية ، قال مظلوم للسائق :
ـمن فضلك ، نزّلني قرب الجامع ... أريد أزور الإمام وأصلي صلاة المغرب ،وبعدين آني آخذ تاكسي للمحطة .. آني أرتاح للسفر بالقطار ...شكرا أغاتي... نزّلني بباب الجامع رحمة على والديك .. جزاك الله ألف خير وكثّرْامثالك .. يمّكْ عيوني يمّكْ ... واذا تحب تشرّفني ناكل كباب على حسابيبعد الصلاة ..
ـ هاي شلك بيها يابه ؟ بيع شلغم على غيري ... ليشالشيوعيين يصلون ؟ كلهم ملحدين يعبدون لينين وماركس ... بعدين إنته شيعي ،شنو علاقتك بالإمام المعظم ؟ تبيع كلاوات علينه؟ إحنا مفتشين باللبن ..
ـيا أخي صدّكني .. والله العظيم آني أدوخ من السفر بالسيارة ... وأريدأسافر بالقطار و.. أحلف بالقرآن العظيم آني مو شيوعي ولا عندي اية علاقةبالـ .....
ـ إذن إنت بحزب الدعوة ..
ـ سترك يا إلهي ...كلها ولا حزب الدعوة ... حزب الدعوة إعدام من غير سؤال وجواب ... لا أخيلا ... أبقى متهم بالشيوعية احسن ... شنو رأيك ؟
ـ إكل خره واسكتْ ... تريد أرجع بيكْ للمخبز ؟ إكرمنه بسكوتك وانجب ...
ـ العفو أغاتي ... آسف ... ليش انتم تسمون الشعبة الخامسة بالاستخبارات المخبز ؟
ـإكرمنه بسكوتك وإنجب ... كافي لغوة ... بعدين مو تنسى وصية السيد المقدم... انطاك إجازة اسبوعين ، تكظيها بالبيت ، اسبوعين ما يبقى بيك أي ورم... خشمك يطيب .. والجرح اللي بكصتك يشفى .. بعدين تلتحق بوحدتك ... ديربالك تتحدث زايد ناكص ...
ـــ واذا سألتني زوجتي أو أمي ؟
ـــمو مشكلة .. تكدر تكول سكران وطحت ... سيارة دعمتني ... تعاركتْ بالكراجوبسطوني .. هذي مو صعبة عليك ... بس تعرف تصفط شعر خريطي .. ما لازم تكولسكران وطحت ... كول لعبت قمار وبسطوني ..
ـــ هاي العايزة ... انعملله عليك .. تريد زوجتي تطلب طلاقها مني .. كلها ولا القمار .. لا أخي ..خليها سكران وطحت ، لو جماعة سرسرية دارو عليّ وبسطوني بالكراج.. هذاالعذر أحسن وأشرف ... كانت عايزه والتمّت ْ .. قمرجي ..
" وكما ينتبه الناطور بعد غفلة ، سأل مظلوم السائق باستغراب :
ـ العفو أخي ، يعني المحقق يحمل رتبة مقدم ؟
ـ ...............
ـ مقدم مقدم ؟ زين ليش ما لابس الرتبة ؟
" لم ينبس السائق بكلمة ، لكنه نظر بضجر الى مظلوم الذي استدرك قائلا :
ـ والله ابن أوادم ...رؤوف ومتواضع ... ما كنت اتصور مقدم ... تواضعه مدهش ...
تفضلسيكارة ... تفضل ارجوك ... شنو انته كاطع التدخين ؟ آني أتمنى أتركالتدخين ... لكن منين أجيب الإرادة ..ألعن اليوم اللي تعلمت بيه التدخين..إي والله .. ما وراه غير الأذية وطياح الحظ ...
ــ ليش طياحالحظ بس بالجكاير ؟ انته من زمان طايح حظك ... لو بيك خير كان بقيت مدرس... قشمر ... حزب البعث سوّاكم أوادم ... خصوصا إنتم الشراكوة ... ربكمودينكم الخميني لو فهد ... ما تصير الكم جارة ... خايسين ...
ــأخي ماكو داعي لهذا الغلط والإهانة .. إحنا مو خايسين .. المقدم زوجته منعشيرتنا .. والله العظيم إذا يسمع المقدم راح يحاسبك .. المقدم من أقاربي..
ــ أكل خره واسكتْ .. ترى أرجع بيك للمخبز وألعن والد والدك .. إنزلْ.. هذا كراج السماوة ...
ــ شكرا جدا ...آني هواية ممنون إلك ... ارجوك بلغ شكري للسيد المقدم ...
ــإنطيني عرض اجتافك ... لا تطولها ... دير بالك زين ، تره هالمرة خلصت ،المرة القادمة إقرأ على نفسك الفاتحة ... وتذكر زين ، مانريد أي كلام زايدناكص ... مفهوم ؟
ـ اطمئن ... ثقة .. إذا سألتني زوجتي لو أمي راح أكول جماعة سرسرية أخوات كحبة بسطوني بالكراج ..
...........................................................
...............................................................
..................................................................
السائق الحاج كاظم وزير ، وقد رأى مظلوم كمن يمشي على مسامير، متورم الوجه :
ـ استاذ ابو شيماء ؟ خير ما كو شي ؟ هاي شبيك ابني ؟
ـلا ما كو شي ... الكواويد السرسرية السفلة الطايحين الحظ خبزونيبالإستخبارات العسكرية بلا صوج وذنب ... مابيهم شريف .. ألعن أبوهم لا أبوحزبهم ..أ لـ ....
ــ شششش ... دير بالك وليدي ... كفيلك اللهوالعباس ، نص سواق السيارات وكلاء أمن ومخابرات ... إصعد ونسولف بالطريق... ليش أكو واحد ما يعرف هذولة الناقصين الذمة والضمير....سفلة مناويـ...
**
عند مشارف مدينة الحصوة قال مظلوم للسائق :
ــحجي آني جوعان .. عازمك على دليمية .. دليمية الحصوة طيبة .. شنو رأيكنتعشى دليمية ونشرب شاي وأشتري جكاير وبعدين نواصل الرحلة ؟
ــ مو مشكلة أستاذ ... بيك خير وتدلل ..
حين دخلا المطعم ، قال مظلوم للسائق : ياحاج .. المطعم صاير معرض صور لـ "مطيحان " .. صورة بالبدلة العسكرية .. صورة بالـ " جراوية " .. صورة بالـ" الزبون " .. صورة بالـ " غترة والبشت " طالع بيها يشبه " شيخ الكاولية ".. الله يرحم والديك ممكن نشوف غير مطعم مابيه صور مطيحان ؟
ــ كل المطاعم مليانة صور الرئيس... إكلْ ولا تباوع عالصور ..
ــ شنو رأيك ناخذ نفرين دليمية سَفَري ؟
ــ والمواعين ؟ الدليمية ماتصير لفّاتْ مثل الكباب ..
ــ ناكل وأمرنا لله .. تعرف سبب تعليق الصور بهذه الكثرة ؟
ــ الناس تريد تبعد الشر أستاذ ... مو بيدهم .. مجبورين يعلقون الصور ..
ــلا ياعزيزي ... أصحاب المطاعم يتعمدون تعليق صور مطيحان حتى اللي ياكلتنسد شهيته وما يطلب كرصة خبز زيادة ... أو يترك نص الدليمية ويخرج منالمطعم وبعدين صاحب المطعم يعيد اللحم المتروك للقدر ويبيعه من جديد ..
**
السائق الحاج " كاظم وزير " لم يكتف بإيصال مظلوم الى باب بيته فحسب ، إنما وحاول جاهدا اقناع مظلوم بعدم دفع الأجرة :
ـ استاذ أبو شيماء ، أرجوك لا تطلع فلوس ... ارجوك ... يفيدنك للطبيب ...بعدين انت استاذ ابني " عزّت " .. وأبوك حجي عباس صديقي بالروح
وحده .. رجّع فلوسك لجيبك الله يخليك ..
ـ لا والله ما يصير ... لازم تاخذ ...آني حلفت ... انت هم صاحب عائلة وعلى باب الله ..
ـ صدّكني آني كنت ناوي أرجع فارغ ...اليوم ماكو عبريّة ... يعني لو انت ما جاي وياي ، كنت آني ارجع بوحدي ..
ـ ما قصّرت ... جزاك الله خير حجي .. هذي الأجرة وآني الممنون ..
ـ بكيفك استاذ ... بس ارجوك ارجوك ارجوك لا تحجي ولا تسولف باللي صار ...تره هذوله سرسرية وما عندهم ضمير...كفيلك الله كلهم هتلية وجايفين ..الشريف بيهم خايس ... ليش هو منو اللي خبّلْ اخوي فاضل ؟ انت ابن السماوةوتعرف زين ...اخوي فاضل من أحسن المعلمين ... اخذوه شرطة الأمن شهر واحد... أخذوه ليرة ذهب ... وطلعوه مجنون ... دير بالك وليدي ... سلّم لي علىعيالك ..
**
استقبلته زوجته وثمة بقايا دموع بين الاجفان :
ـالحمد لله ... صلوات على محمد وآل محمد ....( ثم وهي ترفع يديها صوبالسماء ) إلهي إنطيتني مرادي ... ليلة الجمعة اذبحلك الخروف ... وكل راتبيهذا الشهر لميثم التمّار ... بعد عيني ميثم التمار ...
ـ أم شيماء صيري عاقلة .. شنو أذبح خروف... شنو كل راتبك نذر لميثم التمار ... ؟
ـ انتَ ما عليك ... آني نذرت والله انطاني مرادي ... لازم أوفي النذر ..
الحمدلله ... طلعت بيوم واحد ... كل مرّه تبقى أيام واسابيع ... والله يا ابوشيماء من الصبح لحد الان وآني اصلي وأدعيلك ...قريت كل أدعية الصحيفةالسجّادية ... وقريت دعاء الشدّة والفَرَجْ خمس مرات ... والله انطانيمرادي ... الحمد لله والشكر ..الله فرجها بيوم واحد ...الحمد لله
ـبابا يا يوم واحد ؟ البسط اللي كانوا يبسطونيّاه لمدة اسبوع ، بسطونياهبيوم واحد ... واذا ما ترضين ، أخذوا زيادة أكثر من عشرين راجدي وطحلة ...
ـ الله لا ينطيهم ...إلهي أريدك تاخذ لي حوبتي منهم بحق النبي وآل النبي ...
ـبسيطة بسيطة ... بس ماكو لا ذبح خروف ، ولا راتب الشهر لميثم التمار ...اللي يسمعك يتصور الحكومة عيّنتْني وزير التربية والتعليم ... شلون خبال... كل راتب الشهر لميثم التمار ...ميثم التماّر على عيني وراسي ... هوهسّه بالجنة ... اللي بالجنة يحتاج فلوس ؟ ها ؟ يحتاج ؟ جاوبيني ... ميثمالتمار محتاج فلوس ؟ شيسوّي بالفلوس ؟ يدفعهن بخشيش حتى ما يروح جيش شعبي؟ إذا لميثم التمار تنذرين خروف وراتب شهر ... شنو يكون النذر لو للعباس ؟تنذرين البيت ؟ الحمد لله البيت باسم والدي مو باسمك ... قبل خمس شهورنذرتِ خمس دنانير لأولاد مسلم بن عقيل ... السنة الماضية نذرتِ زيارةلسامراء .. وقبل شهرين نذرتِ تعملين قراية نسوان بالبيت ..
ــ قراية النسوان إنتَ رغمتني ألغيها .. حرام عليك .. فشّلتني وي " ملّة حمدية " ...
ـ طبعا أمنعك ... تريدين يتهمونك بحزب الدعوة خاتون ؟
ـ هاي اشبيك أكلتني حاصل فاصل ... لازم نذبح خروف .. الخروف من أبوي ...والراتـ ...
ـأعرف أعرف ...الخروف من أبوك والراتب راتبك ... لكن ميثم التمار يعرفظروفنا ... والله سبحانه وتعالى مسامح وكريم وما يرضى بالتبذير ... عنديحل ... نذبح دجاجة ... دجاجة آني آكلها ... على الأقل أقوّي جسمي حتى يصيربيّ حيل وقوّة للبسطة القادمة.. همّ الأخوان ماخذيني مقاولة .. كل شهرحفلة سمر ودكّ وركص ... والله العظيم إنتِ السبب ..
ــ أبو شيماء .. شنو قصدك آني السبب ؟ تريدني أنتحر ؟ آآآآآني السبب ؟
ــإيْ والله العظيم إنتِ السبب ... لا .. مو بس إنتِ ... أنتِ وشيماء وهذااللي ابطنك .. لوما أنتم كان من زمان هربت لكردستان لو أفرّ لسوريا ....
ــ وذا لزموك بالحدود ؟ كفيلك الله يعدموك .. إصبرْ والله يفرجها .. الصبر من الإيمان ...
ــ كافي لخاطر الله ... ارفعي صورة تولستوي من المكتبة .. أخاف فد يوم يفتشون البيت ويشوفونها ..
ــ ليش صورة تولستوي ممنوعة ؟
ــلا ماممنوعة ... لكن حمير الأمن يمكن إذا شافو لحيته طويلة يتصورونه ماركسلو أنجلز ... أرفعي حتى صورة رابندرانات طاغور .. هوّ أكو شرطي أمن عراقيسامع برابندرانات طاغور أو تولستوي ؟
ــ رفعتها ...
ــ مزقي الصورة واحتفظي بالجام والإطار ... راح أضع صورة " سعدي الحلي " أو " عوض دوخي " بمكان تولستوي وطاغور وأمري لله .
ــ آني عاجبني هذا الإطار ... أبو شيماء شنو رأيك إذا أخلّي هذا الإطار لصورة والدي ؟
ــ بكيفك ... يمكن إذا شافو صورته بالعقال والشماغ يعتقدون المسكين مسؤول خط الفلاحين .. ياليت أبوك المسكين يتحمل راجدي واحد ..
**
" أم شيماء " ـ والحق يقال ـ إمرأة مفرطة الطيبة ... كانت إحدى طالباتمظلوم حين كان مدرسا في اعدادية السماوة...تحب الشعر وتحترم كل الشعراء ماعدا أولئك الذين أساءوا لشرف الشعر بقصائدهم التي تمجّد " مطيحان " و"قادسيته " ... هي ، وإن كانت حريصة على قراءة صحيفة "
طريق الشعب" ومجلة " الثقافة الجديدة " إلا أنها لا يمكن أن تنام قبل قراءة دستةكاملة من أدعية " الصحيفة السجادية " ... وأما ليلة الجمعة ، فلا مناص منقراءة " دعاء كميل " أيا ً كانت مشاغلها ... تتمتع بصبر مذهل ، وتؤمنإيمانا مطلقا بـ " الذي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين " ... فمثلا ،في صباح اليوم الثاني من زواجهما ، خرج مظلوم لاستئجار سيارة تقلهما الىالبصرة لقضاء شهر العسل ...فإذا به يعود بعد أيام متورم الوجه متعكزاأضلاعه يسفّ قملا ـ رغم أن مفوض الأمن المدعو " علي ناصرية ـ ويبدو أنهكان بانتظاره مقابل البيت " أقسم له أن ضابط أمن البلدة لديه استفسار بسيطلن يستغرق أكثر من دقائق معدودة ... فاكتفت برفع يديها الى السماء مطلقةآهة وحشرجة ، ومن ثم ، لتقول : لا تهتم حبيبي ... هذي إرادة الله ... اللهيريد يختبر عباده ... كولْ الحمد لله حتى تنحسب إلك حسنة ... فأجابها بغضب: يعني الحسنات ماتجي إلآ بالجلاليق والراجديات والكيبلات والرفس ؟ شلونمسودنة ... الله يريد يختبر عباده .. ليش الله محقق بالأمن ؟ أستغفرك ياإلهي ...
إذاقامت الوحدة العسكرية بتسليم منسوبها كتابا مغلقا كُتِبَ عليه " سريللغاية " بدون "مأمور " يرافقه ، فذلك يعني أن المسألة لا تستوجب الخوفوالقلق .. وكل ما سيجري ، هو ، تحقيق روتيني ، وربما التقاط صورة جديدة لهليزداد عدد صفحات " إضبارته " التي افتُتِحتْ في مسقط رأسه ، ولن تُغلققبل دخوله القبر .. أما إذا سُلِم الكتاب " السري للغاية " الى " مأمور"يرافقه من الوحدة العسكرية الى رئاسة الاستخبارات في بغداد ، فالمسألة لنتخلو من " طقم كامل من الصفع والرفس والنطح والكلام البذيء " لكن هذا"الطقم " لن يقود الى الموت ، ولا الى عاهة مستديمة ... فالموت ، او العاهةالمستديمة ستحصل إذا أرسلت رئاسة الإستخبارات العسكرية " مأمورا " منهاليصطحب الشخص المحدد مخفورا ً تطبق على يديه الجامعة الحديدية " كلبجة ".. لذا لم يقرأ مظلوم الفاتحة على روحه ولم يرتبك ، حين استدعاه ليلا آمرالمفرزة ليقول له :
ــ عرفت من النقيب كاظم أن كتابا سريّا للغايةورد من رئاسة الإستخبارات العسكرية / الشعبة الخامسة يقضي بحضورك ، وسيتمإرسالك مخفورا صباح الغد .. فهل أنت متأكد من أنك لم ترتكب عملا ً محظورا ؟
ــ نعم سيدي ... أنا متأكد تماما ... أنا أحاذر حتى من أحلامي ..
ــتذكّر جيدا أن الكتاب من رئاسة الإستخبارات العسكرية وليس من سرية المقرأو من شعبة التوجيه السياسي في اللواء ... راجع مع نفسك إنْ كنت تصرفتتصرفا محظورا .. أمامك الليل كله ، وإياك أن تخبر أحدا ً أنني أطلعتك علىما أخبرني به النقيب ..
ــ إطمئن سيدي ... وليتك تستحصل موافقةالسيد النقيب لأسافر ليل اليوم كي أصل بغداد صباحا ... لم أرتكب محظورا ..والحكمة تقول إنّ النائم على الأرض لا يخشى السقوط من السرير ..
(لمظلوم يقينٌ أنّ آمر المفرزة والنقيب كاظم معا ، أوصلا له خبر كتابالإستخبارات كي يُعطياه فرصة الهرب فيما إذا كان قد ارتكب ماهو محظور ..أمّا وأنه متأكد من أنه لم يقم بأمر ٍ يُخشى منه ، فقد قرر تهيئة نفسهللسفر ليلا قبل الصباح ـ خصوصا وأنه عرف أن المأمور الذي سيذهب به هو جنديمن جنود وحدته ، وهذا يعني ـ حسب خبرته ـ أنّ المسألة لن تكون أكثر منتحقيق روتيني قد يُتبع بصفع وركلات وكلام بذيء كما في الإستجوابينالسابقين )
سافر مظلوم والجندي المرافق قبل انتصاف الليل .. ..الجندي المأمور كان طيبا حقا لدرجة انه سمح لمظلوم بمهاتفة زوجه والتحدثمع طفلته ، ومن ثم السماح له بزيارة بيت شقيقته في اليرموك ببغدادليتناولا معا طعام الإفطار ..
نحو التاسعة والنصف صباحا كان ـالجندي احتياط خرهْ ـ مظلوم بمعية الجندي المأمور يجلسان في غرفةاستعلامات رئاسة الاستخبارات العسكرية .. إستلم مسؤول الإستعلامات كتابالإرسال وقاد مظلوم نحو غرفة مزدحمة بعدة جنود وبضابطين أحدهما برتبةملازم أول والآخر برتبة رائد .. ثمة أصوات صراخ وبكاء تتسرّب من مكان غيربعيد .. يقسم مظلوم أنه رأى سيقان بعض الجنود الجالسين على مقربة منهترتجف مع أن الفصل لم يكن شتاء .. استمر الإنتظار ساعات عدة .. لا يدري كمساعة ، فكل الذي يدريه أنه دخّن علبة السجائر كلها .. وحين طلب من مسؤولالغرفة الذهاب إلى الحمام أجابه بسخرية : " إصبر ... راح تاخذ حريتكبالتبول بعد قليل " .. !!
قبيل الظهر ، لم يبق في الغرفة غيرمظلوم ... بين فينة وأخرى يُطِلّ على الغرفة عسكري ضخم ذو شكل قبيح يُحدّقبمظلوم بعينين وحشيتين ويتحدث بضع كلمات مع الجندي الحارس ثم يخرج .. فيإطلالته الثالثة سأل مظلوم : هل أنت قطة بسبعة أرواح ؟ كيف خرجت حيّا ً منهنا مرتين سابقا ؟
**
أقتيد مظلوم بين عدد من الكرفانات ثم أدخل به حجرة أنيقة ..
بادره العسكري الجالس وراء مكتب أنيق يتصفح إضبارة ضخمة بالقول وهو يمدّ إليه أوراقا ناصعة البياض كالأكفان :
ـ تفضل إجلس .. أكتب بالتفصيل إسماء الخلية الشيوعية في المعسكر ..
ــسيدي الفاضل ، أنا جندي في مفرزة تصليح لايتعدى عديدها بضعة عشرات من جنودبسطاء أكثرهم لايتجاوز تحصيله محو الأمية أو الدراسة الابتدائية وليست ليأية علاقة سياسية بأي حزب .. أقسم سيدي أنني صادق بقولي .. ولو كنت غيرصادق لما بكّرتُ بالحضور ..
ــ وصحيفة طريق الشعب التي عثروا عليها في الملجأ ؟
ــلا علمَ لي بوجود مثل هذه الجريدة .. بمقدورك سيدي أخذ بصمات أصابعي وإذاوجدتم على الجريدة بصمة لي فأنا أطالبكم بإعدامي .. أنا صادق سيدي ..
ــدع المسكنة واعترف وإلآ فلنا طرقنا وأساليبنا التي تجعلك تتوسل كي نسمعاعترافاتك .. اكتب أسماء الخلية وأنا أعدك بشرفي وبالله أنني سأساعدكوستخرج إلى بيتك أو وحدتك بعد لحظات .. كن رؤوفا بنفسك واكتب أسماء الخلية.
ــ أكتب أنت سيدي ماتشاء من أسماء جنود قاطع شرق البصرة وسأوقعلك دون أن أقرأها إذا كان ضميرك يرضى ذلك .. أقسم بالله العظيم وكتابهوبحياة طفلتي أنني أكثر براءة من تهمة الذئب بدم يوسف ..
ــ ألعن أبوك لا أبو يوسف .. إنتم مايفيد وياكم إلآ القسوة ..
ــ والله ياسيدي أنا لا أعرف إنْ كانت طريق الشعب تُطبع أو لا تُطبَع .. ولا أعرف إنْ كان للحزب الشيوعي تنظيم من عدمه ..
أخرج المحقق من بين أوراق الإضبارة الضخمة كتابا أنيقا بغلاف أبيض وقال لمظلوم : أحب أسمع قصيدتك بصوتك ... شنو رأيك ؟
ــ أي قصيدة سيدي ؟
أراهالمحقق عنوان الكتاب : ( سلاما أيها الحزب ) ... فأجابه مظلوم : نعم سيديأتذكر هذا الكتاب ... إنه يضم أكثر من ثلاثين قصيدة قيلت عن الحزب الشيوعيلشعراء منهم على ما أذكر جمال الحيدري ، محمد مهدي الجواهري ، سعدي يوسف ،يوسف الصائغ ، خليل المعاضيدي ، خليل الأسدي ، الفريد سمعان ، دينارالسامرائي ، عبد الكريم كاصد ، محمد صالح بحر العلوم ، رشدي العامل ،وربما البياتي والسياب .. لا أذكر تماما ... الكتاب أصدره الحزب لمناسبةالذكرى الأربعين لتأسيسه ونشرته دار الفارابي اللبنانية ... إنه قديم سيديمضت على صدوره أعوام عديدة ، وأنا كنت حزبيا آنذاك .. أما الان فلا علاقةلي بأي حزب سيدي ..
ــ وماذا عن علاقتك بالعقيد حمزة الربيعي ؟
ــ هو ابن خالتي وزوج شقيقتي سيدي ..
ــ نعرف ذلك ... لكننا نريد أن نعرف أسماء الخلية الشيوعية في وحدتك ..
ــ إنْ كانت توجد خلية فعلا فأنا لا علم لي بها والله ..
ــ لقد اعترف أحد أفرادها عليك ..
ــ واجهوني به سيدي .. لايمكن أن يكون هذا صحيحا .. لا يمكن سيدي ..
ــ ( ضغط المحقق على جرس كهربائي فدخل شاب يرتدي بدلة زيتونية .. أدى له التحية )
قال له المحقق : خذه إلى غرفتك ليكتب أسماء الخلية ..
قلت بصوت مفجوع : كنت صادقا معك سيدي .. فارأف بي لصدقي ..
سحبنيذو البدلة الزيتونية من ذراعي .. وحين أدخلني غرفته صفعني بقوة ورفسنيفسقطت إلى الأرض .. بصق عليّ شخص آخر ورفسني على ظهري قبل أن يخرج .. ثمأغلق الباب ..
ــ إسمعْ جيدا ... سأجعلك تتمنى الموت إذا لم تعترف .. أكتب أسماء الخلية بدون تأخير ..
ــ كيف أكتب عن شيء لا وجود له ؟ أقسم بالله أنا صادق ..
(طاخ .. طاخ .. طيخ .. طاخ طيخ ... ) وانهال ذو البدلة الزيتونية بالصفعوالرفس والركل والوخز بعصا ً تجعل دم الجسد يغلي ... بينما مظلوم متكوّرعلى جسده كالقنفذ ... ازداد الضرب شراسة ... فجأة : تعثر الجلاد بالكرسيفسقط إلى الأرض ... وبشكل لا إرادي قال مظلوم لحظة سقوط جلاده : سلاماتإنشالله .. سلامات أخي ..
بَهتَ الجلاد فقال : ماذا ؟ سلامات ؟
ــ نعم سلامات .. أنا سبب سقوطك إلى الأرض فسامحني .. أعرف أنك مرغم على تعذيبي .. أنت أيضا بريء مثلي ..
ازدادذهول الجلاد ... حدّق بوجه مظلوم ... أعطاه منديلا ورقيّا ليمسح الدم منأنفه ... استمر الصمت دقائق .. أخرج الجلاد علبة سجائره .. دخن سيجارة ثمقال لمظلوم : لماذا لم تصرخ ؟ سأضربك ضربا خفيفا وعليك أن تصرخ بقوة وتبكي.. مفهوم ؟
أجابه مظلوم بصوت يشبه نحيبا دون دموع :
ــ ما أعرف أصرخ سيدي .. ولا أعرف أبكي ... نعم أنا أحتاج أن أبكي .. ولكن ليس أمامك .. غادر الغرفة وسأبكي والله ..
ــ لا تصير حمار ... إصرخ وابكي بالكذب ..
ــ سيدي ابسطني براحتك .. ما راح أبكي ...
ـ طيب إصرخ بصوت عالي ..
ــ والله سيدي ما أعرف أمثّل .. إذا أصرخ كذب راح ينكشف التمثيل وأنت تتحاسب ..
ثمةدمع كثيف ولكن خلف الأجفان ... دمع خشن كبرادة الحديد أبى إلآ أن يهطل منالأحداق نحو الروح ... دمع غير مرئي لا يراه إلآ مظلوم الذي قال للجلادبتودد :
ــ ممكن تنطيني جكارة ؟ أحتاج أدخّن ..
آه يا إلهي!! حتى في مستنقعات القسوة هذه يوجد طيبون !! لقد وضع الجلاد علبة سجائرهأمام مظلوم ... سجائر روثمن .. وغادر الغرفة ... حينها شعر مظلوم بسائلساخن انزلق من عينيه حتى وصل شفتيه وكان مالح المذاق ... سائل صاف ٍكالندى المخلوط بالملح !!
مرّت دقائق وعاد ذو البدلة الزيتونية ليخبر مظلوم أن الضابط يدعوه .
***
تقضّل إجلس ( قال المحقق لمظلوم ) ثم سأله : هل تعرف في السماوة بيت " داخل الحاج مدو " ؟
ـنعم سيدي .. إنهم جيران بيت جدي لأمي الحاج رزاق .. وبيننا صلة قربى بعيدة... إبنه الكبير اسمه صالح .. يليه " كاظم "... وابنه الآخر " شاكر " كانزميلي في الابتدائية .. والأصغر " كريم " ولهم شقيقة أعتقد أن اسمها "إلتفات " وجميعهم الان في الكويت باستثناء كاظم الذي يعمل الان خياطا فيالسماوة ... إنها عائلة فاضلة لا شغل لها بالسياسة ... سمعت مؤخرا أن "شاكر " توفاه الله بالسرطان ..
فوجئ مظلوم بقول المحقق :
زوجتيمن أحد بيوت " آل حاج مدو " ... حقا هي عائلة طيبة ... وستخرج الان إكرامالها ... لكن تذكّر جيدا أن الحظ لن يكون معك دائما .. وليس جميع المحققينمتزوجين من أهالي السماوة ... احترس جيدا من أي عمل محظور ... واحذر أنتخبر أحدا أنك تعرضت لبعض سوء المعاملة في الشعبة الخامسة .. أكرمتك مرةواحدة ... ولن أكرمك مرة أخرى ..
**
لم يصدّق مظلوم عينيه حين رأى نفسه داخل سيارة لاندكروز وقد اجتازت بوابةرئاسة الاستخبارات العسكرية متجهة به نحو الشارع العام ... تساءل في سره:
هلحقا كان المحقق صادقا عندما أخبرني انه متزوج من إحدى عوائل مدينة السماوةـ وتحديدا من عائلة جارنا القديم وقريبنا "داخل حاج مدو " ؟ وهل حقا كانترأفته بي ، إكراما لعائلة زوجه ؟ وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا ترك مستخدميهيتدربون بجسدي على لعبتي الملاكمة وكرة القدم ، متخذين من وجهي سطلاللبصاق ومشجبا للصفعات ؟ لا ... لا يامظلوم، لا تصير غشيم ـ قال في نفسه ـاليوم يشوون البصل على اذنك ... إي والله ... هو المحقق نفسه كاللي إعترفكبل ما ياخذونك ويشوون البصل على إذنك ... طيب ، لكن ليش انطاني ورقةرابوط طبي بيها إجازة لمدة اسبوعين ؟ مو بس الإجازة ، لا ... فوكاها باكيتجكاير سومر أصلي ، وسيارة لاندكروز توصلني لكراج علاوي الحلة ّ؟؟؟ صحيحآني ما أكدر أمشي من الرضوض .. وصحيح خشمي مورم وأحس فد شي مثل القطاريجعر داخل إذني ، بس ليش ما تركني اطلع وحدي وآني آخذ تاكسي .. شنو يعنيما عندي فلوس ؟ لا ... عندي سبع دنانير عدا الخردوات ... لا يامظلوم ،المسألة بيها سر .. إي والله بيها سر ... إلهي دخيلك .. انقذني هالمرّه ،وأعاهدك راح أصوم وأصلي وأترك كل السوالف المكسرة .. ( ثم وهو يحدث نفسه ): راح أطش واهلية نذر للكاظم ... وأدز كونية تمن لبيت الفقير الشحاذ حسينالأعمى نذر للعباس أبو فاضل ... وأنطي ملابسي القديمة للفقراء في سبيلالله ... إلهي دخيلك .. إنقذني هاي المرّة بحق النبي عندك ... إلهي وحقعزتك وجلالتك ، راح أترك كل السوالف الموزينه .. انته ومروتك إلهي بسخلصني هالمره ، وشوفني شلون راح أصير مؤمن حقيقي يصوم ويصلي ومايشرب عرك.. آني دخيل عندك إلهي .. انته تعرف هذوله اشلون سرسريه وأولاد كلب .. !!!واحدهم أنجس من لحية الشمر بن ذي الجوشن وأوسخ من جزمة يزيد بن معاوية ..
معقولةالمحقق بعد كل ذاك الدك والكتل والطحلات والراجديات والرفس والكيبلوالتفال ، ينطيني إجازة لمدة اسبوعين وباكيت جكاير سومر أصلي وفوكاهاسيارة لاندكروز توصلني لباب كراج علاوي الحلة ؟ والله العظيم بس الحماريصدك ... لا يابا لا ..
المسأله بيها سر ...
استمر مظلوم في هذيانه وذهوله الصامتين ... وفكر مع نفسه بالقفز منالسيارة حالما تسنح الفرصة المناسبة ... لكنه تذكر أن قدميه المتورمتين لنتساعدانه ... وحتى لو تساعدانه ، وبحسب خبرته ـ فالتعذيب سيكون أكثر قسوةفي حال الإمساك بالهارب ..
" لم يستبعد مظلوم احتمال أن يتعمد السائق توفير فرصة الهروب له كي يقتله برصاصة من مسدسه الواضح للعيان .. "
حين عبرت السيارة جسر الاعظمية ، قال مظلوم للسائق :
ـمن فضلك ، نزّلني قرب الجامع ... أريد أزور الإمام وأصلي صلاة المغرب ،وبعدين آني آخذ تاكسي للمحطة .. آني أرتاح للسفر بالقطار ...شكرا أغاتي... نزّلني بباب الجامع رحمة على والديك .. جزاك الله ألف خير وكثّرْامثالك .. يمّكْ عيوني يمّكْ ... واذا تحب تشرّفني ناكل كباب على حسابيبعد الصلاة ..
ـ هاي شلك بيها يابه ؟ بيع شلغم على غيري ... ليشالشيوعيين يصلون ؟ كلهم ملحدين يعبدون لينين وماركس ... بعدين إنته شيعي ،شنو علاقتك بالإمام المعظم ؟ تبيع كلاوات علينه؟ إحنا مفتشين باللبن ..
ـيا أخي صدّكني .. والله العظيم آني أدوخ من السفر بالسيارة ... وأريدأسافر بالقطار و.. أحلف بالقرآن العظيم آني مو شيوعي ولا عندي اية علاقةبالـ .....
ـ إذن إنت بحزب الدعوة ..
ـ سترك يا إلهي ...كلها ولا حزب الدعوة ... حزب الدعوة إعدام من غير سؤال وجواب ... لا أخيلا ... أبقى متهم بالشيوعية احسن ... شنو رأيك ؟
ـ إكل خره واسكتْ ... تريد أرجع بيكْ للمخبز ؟ إكرمنه بسكوتك وانجب ...
ـ العفو أغاتي ... آسف ... ليش انتم تسمون الشعبة الخامسة بالاستخبارات المخبز ؟
ـإكرمنه بسكوتك وإنجب ... كافي لغوة ... بعدين مو تنسى وصية السيد المقدم... انطاك إجازة اسبوعين ، تكظيها بالبيت ، اسبوعين ما يبقى بيك أي ورم... خشمك يطيب .. والجرح اللي بكصتك يشفى .. بعدين تلتحق بوحدتك ... ديربالك تتحدث زايد ناكص ...
ـــ واذا سألتني زوجتي أو أمي ؟
ـــمو مشكلة .. تكدر تكول سكران وطحت ... سيارة دعمتني ... تعاركتْ بالكراجوبسطوني .. هذي مو صعبة عليك ... بس تعرف تصفط شعر خريطي .. ما لازم تكولسكران وطحت ... كول لعبت قمار وبسطوني ..
ـــ هاي العايزة ... انعملله عليك .. تريد زوجتي تطلب طلاقها مني .. كلها ولا القمار .. لا أخي ..خليها سكران وطحت ، لو جماعة سرسرية دارو عليّ وبسطوني بالكراج.. هذاالعذر أحسن وأشرف ... كانت عايزه والتمّت ْ .. قمرجي ..
" وكما ينتبه الناطور بعد غفلة ، سأل مظلوم السائق باستغراب :
ـ العفو أخي ، يعني المحقق يحمل رتبة مقدم ؟
ـ ...............
ـ مقدم مقدم ؟ زين ليش ما لابس الرتبة ؟
" لم ينبس السائق بكلمة ، لكنه نظر بضجر الى مظلوم الذي استدرك قائلا :
ـ والله ابن أوادم ...رؤوف ومتواضع ... ما كنت اتصور مقدم ... تواضعه مدهش ...
تفضلسيكارة ... تفضل ارجوك ... شنو انته كاطع التدخين ؟ آني أتمنى أتركالتدخين ... لكن منين أجيب الإرادة ..ألعن اليوم اللي تعلمت بيه التدخين..إي والله .. ما وراه غير الأذية وطياح الحظ ...
ــ ليش طياحالحظ بس بالجكاير ؟ انته من زمان طايح حظك ... لو بيك خير كان بقيت مدرس... قشمر ... حزب البعث سوّاكم أوادم ... خصوصا إنتم الشراكوة ... ربكمودينكم الخميني لو فهد ... ما تصير الكم جارة ... خايسين ...
ــأخي ماكو داعي لهذا الغلط والإهانة .. إحنا مو خايسين .. المقدم زوجته منعشيرتنا .. والله العظيم إذا يسمع المقدم راح يحاسبك .. المقدم من أقاربي..
ــ أكل خره واسكتْ .. ترى أرجع بيك للمخبز وألعن والد والدك .. إنزلْ.. هذا كراج السماوة ...
ــ شكرا جدا ...آني هواية ممنون إلك ... ارجوك بلغ شكري للسيد المقدم ...
ــإنطيني عرض اجتافك ... لا تطولها ... دير بالك زين ، تره هالمرة خلصت ،المرة القادمة إقرأ على نفسك الفاتحة ... وتذكر زين ، مانريد أي كلام زايدناكص ... مفهوم ؟
ـ اطمئن ... ثقة .. إذا سألتني زوجتي لو أمي راح أكول جماعة سرسرية أخوات كحبة بسطوني بالكراج ..
...........................................................
...............................................................
..................................................................
السائق الحاج كاظم وزير ، وقد رأى مظلوم كمن يمشي على مسامير، متورم الوجه :
ـ استاذ ابو شيماء ؟ خير ما كو شي ؟ هاي شبيك ابني ؟
ـلا ما كو شي ... الكواويد السرسرية السفلة الطايحين الحظ خبزونيبالإستخبارات العسكرية بلا صوج وذنب ... مابيهم شريف .. ألعن أبوهم لا أبوحزبهم ..أ لـ ....
ــ شششش ... دير بالك وليدي ... كفيلك اللهوالعباس ، نص سواق السيارات وكلاء أمن ومخابرات ... إصعد ونسولف بالطريق... ليش أكو واحد ما يعرف هذولة الناقصين الذمة والضمير....سفلة مناويـ...
**
عند مشارف مدينة الحصوة قال مظلوم للسائق :
ــحجي آني جوعان .. عازمك على دليمية .. دليمية الحصوة طيبة .. شنو رأيكنتعشى دليمية ونشرب شاي وأشتري جكاير وبعدين نواصل الرحلة ؟
ــ مو مشكلة أستاذ ... بيك خير وتدلل ..
حين دخلا المطعم ، قال مظلوم للسائق : ياحاج .. المطعم صاير معرض صور لـ "مطيحان " .. صورة بالبدلة العسكرية .. صورة بالـ " جراوية " .. صورة بالـ" الزبون " .. صورة بالـ " غترة والبشت " طالع بيها يشبه " شيخ الكاولية ".. الله يرحم والديك ممكن نشوف غير مطعم مابيه صور مطيحان ؟
ــ كل المطاعم مليانة صور الرئيس... إكلْ ولا تباوع عالصور ..
ــ شنو رأيك ناخذ نفرين دليمية سَفَري ؟
ــ والمواعين ؟ الدليمية ماتصير لفّاتْ مثل الكباب ..
ــ ناكل وأمرنا لله .. تعرف سبب تعليق الصور بهذه الكثرة ؟
ــ الناس تريد تبعد الشر أستاذ ... مو بيدهم .. مجبورين يعلقون الصور ..
ــلا ياعزيزي ... أصحاب المطاعم يتعمدون تعليق صور مطيحان حتى اللي ياكلتنسد شهيته وما يطلب كرصة خبز زيادة ... أو يترك نص الدليمية ويخرج منالمطعم وبعدين صاحب المطعم يعيد اللحم المتروك للقدر ويبيعه من جديد ..
**
السائق الحاج " كاظم وزير " لم يكتف بإيصال مظلوم الى باب بيته فحسب ، إنما وحاول جاهدا اقناع مظلوم بعدم دفع الأجرة :
ـ استاذ أبو شيماء ، أرجوك لا تطلع فلوس ... ارجوك ... يفيدنك للطبيب ...بعدين انت استاذ ابني " عزّت " .. وأبوك حجي عباس صديقي بالروح
وحده .. رجّع فلوسك لجيبك الله يخليك ..
ـ لا والله ما يصير ... لازم تاخذ ...آني حلفت ... انت هم صاحب عائلة وعلى باب الله ..
ـ صدّكني آني كنت ناوي أرجع فارغ ...اليوم ماكو عبريّة ... يعني لو انت ما جاي وياي ، كنت آني ارجع بوحدي ..
ـ ما قصّرت ... جزاك الله خير حجي .. هذي الأجرة وآني الممنون ..
ـ بكيفك استاذ ... بس ارجوك ارجوك ارجوك لا تحجي ولا تسولف باللي صار ...تره هذوله سرسرية وما عندهم ضمير...كفيلك الله كلهم هتلية وجايفين ..الشريف بيهم خايس ... ليش هو منو اللي خبّلْ اخوي فاضل ؟ انت ابن السماوةوتعرف زين ...اخوي فاضل من أحسن المعلمين ... اخذوه شرطة الأمن شهر واحد... أخذوه ليرة ذهب ... وطلعوه مجنون ... دير بالك وليدي ... سلّم لي علىعيالك ..
**
استقبلته زوجته وثمة بقايا دموع بين الاجفان :
ـالحمد لله ... صلوات على محمد وآل محمد ....( ثم وهي ترفع يديها صوبالسماء ) إلهي إنطيتني مرادي ... ليلة الجمعة اذبحلك الخروف ... وكل راتبيهذا الشهر لميثم التمّار ... بعد عيني ميثم التمار ...
ـ أم شيماء صيري عاقلة .. شنو أذبح خروف... شنو كل راتبك نذر لميثم التمار ... ؟
ـ انتَ ما عليك ... آني نذرت والله انطاني مرادي ... لازم أوفي النذر ..
الحمدلله ... طلعت بيوم واحد ... كل مرّه تبقى أيام واسابيع ... والله يا ابوشيماء من الصبح لحد الان وآني اصلي وأدعيلك ...قريت كل أدعية الصحيفةالسجّادية ... وقريت دعاء الشدّة والفَرَجْ خمس مرات ... والله انطانيمرادي ... الحمد لله والشكر ..الله فرجها بيوم واحد ...الحمد لله
ـبابا يا يوم واحد ؟ البسط اللي كانوا يبسطونيّاه لمدة اسبوع ، بسطونياهبيوم واحد ... واذا ما ترضين ، أخذوا زيادة أكثر من عشرين راجدي وطحلة ...
ـ الله لا ينطيهم ...إلهي أريدك تاخذ لي حوبتي منهم بحق النبي وآل النبي ...
ـبسيطة بسيطة ... بس ماكو لا ذبح خروف ، ولا راتب الشهر لميثم التمار ...اللي يسمعك يتصور الحكومة عيّنتْني وزير التربية والتعليم ... شلون خبال... كل راتب الشهر لميثم التمار ...ميثم التماّر على عيني وراسي ... هوهسّه بالجنة ... اللي بالجنة يحتاج فلوس ؟ ها ؟ يحتاج ؟ جاوبيني ... ميثمالتمار محتاج فلوس ؟ شيسوّي بالفلوس ؟ يدفعهن بخشيش حتى ما يروح جيش شعبي؟ إذا لميثم التمار تنذرين خروف وراتب شهر ... شنو يكون النذر لو للعباس ؟تنذرين البيت ؟ الحمد لله البيت باسم والدي مو باسمك ... قبل خمس شهورنذرتِ خمس دنانير لأولاد مسلم بن عقيل ... السنة الماضية نذرتِ زيارةلسامراء .. وقبل شهرين نذرتِ تعملين قراية نسوان بالبيت ..
ــ قراية النسوان إنتَ رغمتني ألغيها .. حرام عليك .. فشّلتني وي " ملّة حمدية " ...
ـ طبعا أمنعك ... تريدين يتهمونك بحزب الدعوة خاتون ؟
ـ هاي اشبيك أكلتني حاصل فاصل ... لازم نذبح خروف .. الخروف من أبوي ...والراتـ ...
ـأعرف أعرف ...الخروف من أبوك والراتب راتبك ... لكن ميثم التمار يعرفظروفنا ... والله سبحانه وتعالى مسامح وكريم وما يرضى بالتبذير ... عنديحل ... نذبح دجاجة ... دجاجة آني آكلها ... على الأقل أقوّي جسمي حتى يصيربيّ حيل وقوّة للبسطة القادمة.. همّ الأخوان ماخذيني مقاولة .. كل شهرحفلة سمر ودكّ وركص ... والله العظيم إنتِ السبب ..
ــ أبو شيماء .. شنو قصدك آني السبب ؟ تريدني أنتحر ؟ آآآآآني السبب ؟
ــإيْ والله العظيم إنتِ السبب ... لا .. مو بس إنتِ ... أنتِ وشيماء وهذااللي ابطنك .. لوما أنتم كان من زمان هربت لكردستان لو أفرّ لسوريا ....
ــ وذا لزموك بالحدود ؟ كفيلك الله يعدموك .. إصبرْ والله يفرجها .. الصبر من الإيمان ...
ــ كافي لخاطر الله ... ارفعي صورة تولستوي من المكتبة .. أخاف فد يوم يفتشون البيت ويشوفونها ..
ــ ليش صورة تولستوي ممنوعة ؟
ــلا ماممنوعة ... لكن حمير الأمن يمكن إذا شافو لحيته طويلة يتصورونه ماركسلو أنجلز ... أرفعي حتى صورة رابندرانات طاغور .. هوّ أكو شرطي أمن عراقيسامع برابندرانات طاغور أو تولستوي ؟
ــ رفعتها ...
ــ مزقي الصورة واحتفظي بالجام والإطار ... راح أضع صورة " سعدي الحلي " أو " عوض دوخي " بمكان تولستوي وطاغور وأمري لله .
ــ آني عاجبني هذا الإطار ... أبو شيماء شنو رأيك إذا أخلّي هذا الإطار لصورة والدي ؟
ــ بكيفك ... يمكن إذا شافو صورته بالعقال والشماغ يعتقدون المسكين مسؤول خط الفلاحين .. ياليت أبوك المسكين يتحمل راجدي واحد ..
**
" أم شيماء " ـ والحق يقال ـ إمرأة مفرطة الطيبة ... كانت إحدى طالباتمظلوم حين كان مدرسا في اعدادية السماوة...تحب الشعر وتحترم كل الشعراء ماعدا أولئك الذين أساءوا لشرف الشعر بقصائدهم التي تمجّد " مطيحان " و"قادسيته " ... هي ، وإن كانت حريصة على قراءة صحيفة "
طريق الشعب" ومجلة " الثقافة الجديدة " إلا أنها لا يمكن أن تنام قبل قراءة دستةكاملة من أدعية " الصحيفة السجادية " ... وأما ليلة الجمعة ، فلا مناص منقراءة " دعاء كميل " أيا ً كانت مشاغلها ... تتمتع بصبر مذهل ، وتؤمنإيمانا مطلقا بـ " الذي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين " ... فمثلا ،في صباح اليوم الثاني من زواجهما ، خرج مظلوم لاستئجار سيارة تقلهما الىالبصرة لقضاء شهر العسل ...فإذا به يعود بعد أيام متورم الوجه متعكزاأضلاعه يسفّ قملا ـ رغم أن مفوض الأمن المدعو " علي ناصرية ـ ويبدو أنهكان بانتظاره مقابل البيت " أقسم له أن ضابط أمن البلدة لديه استفسار بسيطلن يستغرق أكثر من دقائق معدودة ... فاكتفت برفع يديها الى السماء مطلقةآهة وحشرجة ، ومن ثم ، لتقول : لا تهتم حبيبي ... هذي إرادة الله ... اللهيريد يختبر عباده ... كولْ الحمد لله حتى تنحسب إلك حسنة ... فأجابها بغضب: يعني الحسنات ماتجي إلآ بالجلاليق والراجديات والكيبلات والرفس ؟ شلونمسودنة ... الله يريد يختبر عباده .. ليش الله محقق بالأمن ؟ أستغفرك ياإلهي ...