مرّ
ياسر عرمان لا يلوي على شيء ينهبُ الأرض بخطوات لا تلتفت إلى رفاقٍ بدا
أنه تركهم في حيرة لخبرٍ أنبأهم به.. في يوم حرٍ قائظ في فناء جامعة
القاهرة فرع الخرطوم في العاصمة السودانية عام 1982.
وجهه سكنه الوجوم، واختفت في أعيننا، قسمات مرسومة على ابتسام وهم، ولم
يلتفت لسلامنا وثلة من أصحابه، جئنا من جامعة الخرطوم في بعض شأن السياسة..
بعد أشهرٍ سمعنا به في أديس أبابا، ليعلن التحاقه بالحركة الشعبية. قبلها
بشهور علقت عضويته في الجبهة الديمقراطية للطلاب، وهي تنظيم يجمع
الشيوعيين ومن تبع برنامجهم السياسي.
لم يرق للشيوعيين أن يحمل عرمان مسدساً، لحمايته، بعد تهديداتِ تنظيم
الاتجاه الإسلامي، وهو ذراع حزب الدكتور حسن الترابي حينئذٍ، تهديداتٍ
بتصفيته.. ولم يكن مكمن الخلاف هنا وحسب، بيد أن سقوط حكم جعفر النميري في
أبريل/نيسان عام 1985، وقيام حكمٍ تعددي، لم يقوَ على تغييرٍ في حياة
الناس، واستبداد الفوضى والاضطراب، ربما أفسدت على كثيرين حلمهم بوطنٍ
طيب، خصوصاً الذين رأوا أن الإسلاميين الذين عادوا بقوة للساحة السياسية
يحركونها، رغم تحالفهم لسنوات مع النميري الذي انقلب عليهم قبل أيام من
رحيله، بعد تحالف ثماني سنوات.. فنجوا من عنت الأحزاب التي عارضت النميري
حيناً بعد تحالف أغلبها لفترات.
زواج ياسر من بنت سلطان بقبيلة الدينكا
مفوضية استفتاء جنوب السودان
نفذ ياسر إلى صفوة
قيادة الحركة الشعبية، معجوناً بذخيرة فكرية وثقافية ثرة، التصقت به منذ
الصغر، وصدقٍ في الانتماء ووفاء، تشربه من أهله في منطقة الجزيرة بوسط
السودان وتحديداً من قريته حلة سعيد.
لأول مرة في تاريخ الحركات الجنوبية السياسية يلتحق شمالي شاب بصفات ياسر
وطاقاته. أخلص ياسر لوضعه الجديد وتزوج من بنت سلطان لأحد بطون قبيلة
الدينكا التي تسكن منطقة أبيي الغنية المتنازع عليها على حدود الشمال
والجنوب.
وشغل ياسر بال سودانيين كثر استغربوا انضمامه للحركة وثباته رغم هزاتٍ
عنيفات لم تبق أقرب الأقربين لجون قرنق (القائد المؤسس). كانت خصائل
القيادة فيه كما كان يردد سياسيون تمكنه من الصفوف الأولى في أي الأحزاب
شاء في المعارضة أو الحكم.
ورأى غير قليل حينئذٍ: أنى يحتمل شمالي قسوة الانعتاق من براثن "نفسيته"
الموروثة لتي تشكلت عبر قرون، وثقافته المسيطرة المحتقرة لكل ما هو "داكن"
من الجنوب أو الغرب مهما كان دينه.. بقيمه وتقاليده وفكره. زمرةٌ ربما
تبعت ياسر في توحدها مع الجنوبيين، عبر عضويتهم في الحركة الشعبية، لكنها
كما يجمع علماء اجتماع، لا ترقى إلى الظاهرة.. أو التحول إن شئت القول.
وهذا في اتفاق كثر، المدخل الصعب المنسي لفهم عمق مشكلة الشمال والجنوب
والشمال والغرب.. استعلاء يختلط بتخلف بنيوي. وربما ينأى التبسيط
والاستعجال في حلها عن تلمس حلٍ ناجع حاسم.
نفرٌ كثير استمعت إليهم في أديس أبابا في صيف عام 1985.. جاءوا من جنوب
غرب السودان وجنوبه الشرقي ليلتحقوا بالحركة الشعبية. مسلمون رأيتهم
ببصيرة الشاب الشمالي العرجاء، يشرئبون إلى وطنٍ يتساوى فيه الناس في
الفرص والمساواة أمام القانون.
ورغم انخراطنا في العمل السياسي بيد أننا كنا نرى الأمر يعني آخرين.. فلم
نحسُّ يوماً ببؤس ما قالوه ولم نعرف للحرب البعيدة المكان ويلات تذاق في
حياة طيبة ننعمها.. في الحرب وفي السلام سواء.
منصور خالد مفكّر سياسي وابن بيت عريق
ياسر
كان من النافذين في مباحثات السلام إلى إعلان الاتفاق. واسند إلى ياسر
ملفات كبار منذ ولوجه الحركة الشعبية في الحرب والسلم.. وفضلاً عن تنظيمه
الاستقبال الكبير عند عودة قرنق للخرطوم عام 2005، أوكلت إليه مهمة إعادة
تنظيم الحركة الشعبية للتواؤم مع وضعها الجديد بعد السلام.. ووضح أثره في
مستويات الحركة المختلفة.
وعرف لشماليين بعد اتفاق السلام لا يتعدى عددهم العشرة في قيادة الحركة
أثرٌ وجلبة، بيد أن لا أحد ينازع ياسر الوهج سوى الدكتور منصور خالد، الذي
قال عنه المفكر السوداني الكبير الدبلوماسي جمال محمد أحمد: "لا أعرف
حياةً عامة استقامت دون أشباه منصور". منصور من بيت عريق من أم درمان وعرف
كيانات بيوت السياسة والتصق بها منذ شبابه الغض، وعمل وزيراً للخارجية في
أولى سنوات الرئيس السابق جعفر النميري، بعد أن اغترف من أعرق جامعات
الدنيا علمه.
عاد إلى السودان بعيد سقوط النميري لتطالب أحزابٌ وجماعات باعتقاله، وخرج
من السودان كالهارب.. ليعلن انضمامه للحركة الشعبية، فتحظى بشخصية مهما
كال منتقدوه له الاتهامات، ومادحوه جميل الصفات، فإنه من قلةٍ تكتبُ
وتجتهد في أمر الوطن بهمة الكبار.
ولانشغاله بالعمل في مؤسساتٍ دولية وإقليمية بقي منصور على صفة المستشارية
السياسية لزعيم الحركة الشعبية جون قرنق، وأنتج منذئذٍ كتباً عدة
وأبحاثاً، هي الأكثر غزارة في كمها والأميز في كيفها لمفكرٍ سوداني.
وانخرط كما ياسر في مفاوضات السلام مع الحكومة ومن ثمَ مؤسسات الحكم.. تحسب الحركة لرأيه في كل خطوة حساب.
بعد
مقتل قرنق قائد الحركة الشعبية في حادث تحطم المروحية في جنوب السودان..
كثرت الخلافات بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على تفاصيل تطبيق اتفاق
السلام وما نص عليه من نصيب المشاركة في الحكم واتخاذ القرار ومشروعات في
الجنوب وحقوق سياسية وغيرها.
علت أصوات كثر في الحركة تشكك في نيات المؤتمر الوطني.. لكن صوتهما: ياسر
ومنصور كان الأمضى في التمكين للشقاق، فهما قائدان كبيران في الحركة ومن
الشمال.. واستبد ذلك القديم الذي لا ينام ولا يهدأ له بال.. فحتامَ يتقلب
الجنوبيون من اتفاق إلى حربٍ إلى اتفاق؟ كما تساءل جنوبيون كثر.. وفي
مقدمهم منصور وياسر الشماليان، توافقت قيادة الحركة على العمل من أجلِ كسب
الوقت والتهيئة لاستفتاءٍ يقود إلى استقلال جنوب السودان.. عن شماله..
لمطالعة الحلقتين السابقتين:
http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/22/130547.html
http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/21/130400.html
ياسر عرمان لا يلوي على شيء ينهبُ الأرض بخطوات لا تلتفت إلى رفاقٍ بدا
أنه تركهم في حيرة لخبرٍ أنبأهم به.. في يوم حرٍ قائظ في فناء جامعة
القاهرة فرع الخرطوم في العاصمة السودانية عام 1982.
وجهه سكنه الوجوم، واختفت في أعيننا، قسمات مرسومة على ابتسام وهم، ولم
يلتفت لسلامنا وثلة من أصحابه، جئنا من جامعة الخرطوم في بعض شأن السياسة..
بعد أشهرٍ سمعنا به في أديس أبابا، ليعلن التحاقه بالحركة الشعبية. قبلها
بشهور علقت عضويته في الجبهة الديمقراطية للطلاب، وهي تنظيم يجمع
الشيوعيين ومن تبع برنامجهم السياسي.
لم يرق للشيوعيين أن يحمل عرمان مسدساً، لحمايته، بعد تهديداتِ تنظيم
الاتجاه الإسلامي، وهو ذراع حزب الدكتور حسن الترابي حينئذٍ، تهديداتٍ
بتصفيته.. ولم يكن مكمن الخلاف هنا وحسب، بيد أن سقوط حكم جعفر النميري في
أبريل/نيسان عام 1985، وقيام حكمٍ تعددي، لم يقوَ على تغييرٍ في حياة
الناس، واستبداد الفوضى والاضطراب، ربما أفسدت على كثيرين حلمهم بوطنٍ
طيب، خصوصاً الذين رأوا أن الإسلاميين الذين عادوا بقوة للساحة السياسية
يحركونها، رغم تحالفهم لسنوات مع النميري الذي انقلب عليهم قبل أيام من
رحيله، بعد تحالف ثماني سنوات.. فنجوا من عنت الأحزاب التي عارضت النميري
حيناً بعد تحالف أغلبها لفترات.
زواج ياسر من بنت سلطان بقبيلة الدينكا
مفوضية استفتاء جنوب السودان
نفذ ياسر إلى صفوة
قيادة الحركة الشعبية، معجوناً بذخيرة فكرية وثقافية ثرة، التصقت به منذ
الصغر، وصدقٍ في الانتماء ووفاء، تشربه من أهله في منطقة الجزيرة بوسط
السودان وتحديداً من قريته حلة سعيد.
لأول مرة في تاريخ الحركات الجنوبية السياسية يلتحق شمالي شاب بصفات ياسر
وطاقاته. أخلص ياسر لوضعه الجديد وتزوج من بنت سلطان لأحد بطون قبيلة
الدينكا التي تسكن منطقة أبيي الغنية المتنازع عليها على حدود الشمال
والجنوب.
وشغل ياسر بال سودانيين كثر استغربوا انضمامه للحركة وثباته رغم هزاتٍ
عنيفات لم تبق أقرب الأقربين لجون قرنق (القائد المؤسس). كانت خصائل
القيادة فيه كما كان يردد سياسيون تمكنه من الصفوف الأولى في أي الأحزاب
شاء في المعارضة أو الحكم.
ورأى غير قليل حينئذٍ: أنى يحتمل شمالي قسوة الانعتاق من براثن "نفسيته"
الموروثة لتي تشكلت عبر قرون، وثقافته المسيطرة المحتقرة لكل ما هو "داكن"
من الجنوب أو الغرب مهما كان دينه.. بقيمه وتقاليده وفكره. زمرةٌ ربما
تبعت ياسر في توحدها مع الجنوبيين، عبر عضويتهم في الحركة الشعبية، لكنها
كما يجمع علماء اجتماع، لا ترقى إلى الظاهرة.. أو التحول إن شئت القول.
وهذا في اتفاق كثر، المدخل الصعب المنسي لفهم عمق مشكلة الشمال والجنوب
والشمال والغرب.. استعلاء يختلط بتخلف بنيوي. وربما ينأى التبسيط
والاستعجال في حلها عن تلمس حلٍ ناجع حاسم.
نفرٌ كثير استمعت إليهم في أديس أبابا في صيف عام 1985.. جاءوا من جنوب
غرب السودان وجنوبه الشرقي ليلتحقوا بالحركة الشعبية. مسلمون رأيتهم
ببصيرة الشاب الشمالي العرجاء، يشرئبون إلى وطنٍ يتساوى فيه الناس في
الفرص والمساواة أمام القانون.
ورغم انخراطنا في العمل السياسي بيد أننا كنا نرى الأمر يعني آخرين.. فلم
نحسُّ يوماً ببؤس ما قالوه ولم نعرف للحرب البعيدة المكان ويلات تذاق في
حياة طيبة ننعمها.. في الحرب وفي السلام سواء.
منصور خالد مفكّر سياسي وابن بيت عريق
ياسر
كان من النافذين في مباحثات السلام إلى إعلان الاتفاق. واسند إلى ياسر
ملفات كبار منذ ولوجه الحركة الشعبية في الحرب والسلم.. وفضلاً عن تنظيمه
الاستقبال الكبير عند عودة قرنق للخرطوم عام 2005، أوكلت إليه مهمة إعادة
تنظيم الحركة الشعبية للتواؤم مع وضعها الجديد بعد السلام.. ووضح أثره في
مستويات الحركة المختلفة.
وعرف لشماليين بعد اتفاق السلام لا يتعدى عددهم العشرة في قيادة الحركة
أثرٌ وجلبة، بيد أن لا أحد ينازع ياسر الوهج سوى الدكتور منصور خالد، الذي
قال عنه المفكر السوداني الكبير الدبلوماسي جمال محمد أحمد: "لا أعرف
حياةً عامة استقامت دون أشباه منصور". منصور من بيت عريق من أم درمان وعرف
كيانات بيوت السياسة والتصق بها منذ شبابه الغض، وعمل وزيراً للخارجية في
أولى سنوات الرئيس السابق جعفر النميري، بعد أن اغترف من أعرق جامعات
الدنيا علمه.
عاد إلى السودان بعيد سقوط النميري لتطالب أحزابٌ وجماعات باعتقاله، وخرج
من السودان كالهارب.. ليعلن انضمامه للحركة الشعبية، فتحظى بشخصية مهما
كال منتقدوه له الاتهامات، ومادحوه جميل الصفات، فإنه من قلةٍ تكتبُ
وتجتهد في أمر الوطن بهمة الكبار.
ولانشغاله بالعمل في مؤسساتٍ دولية وإقليمية بقي منصور على صفة المستشارية
السياسية لزعيم الحركة الشعبية جون قرنق، وأنتج منذئذٍ كتباً عدة
وأبحاثاً، هي الأكثر غزارة في كمها والأميز في كيفها لمفكرٍ سوداني.
وانخرط كما ياسر في مفاوضات السلام مع الحكومة ومن ثمَ مؤسسات الحكم.. تحسب الحركة لرأيه في كل خطوة حساب.
بعد
مقتل قرنق قائد الحركة الشعبية في حادث تحطم المروحية في جنوب السودان..
كثرت الخلافات بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على تفاصيل تطبيق اتفاق
السلام وما نص عليه من نصيب المشاركة في الحكم واتخاذ القرار ومشروعات في
الجنوب وحقوق سياسية وغيرها.
علت أصوات كثر في الحركة تشكك في نيات المؤتمر الوطني.. لكن صوتهما: ياسر
ومنصور كان الأمضى في التمكين للشقاق، فهما قائدان كبيران في الحركة ومن
الشمال.. واستبد ذلك القديم الذي لا ينام ولا يهدأ له بال.. فحتامَ يتقلب
الجنوبيون من اتفاق إلى حربٍ إلى اتفاق؟ كما تساءل جنوبيون كثر.. وفي
مقدمهم منصور وياسر الشماليان، توافقت قيادة الحركة على العمل من أجلِ كسب
الوقت والتهيئة لاستفتاءٍ يقود إلى استقلال جنوب السودان.. عن شماله..
لمطالعة الحلقتين السابقتين:
http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/22/130547.html
http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/21/130400.html